23 ديسمبر، 2024 2:00 ص

القصور والأقبية

القصور والأقبية

لا أحد منا يختار الظروف التي يولد فيها، كما أننا لا نختار كل الأشياء التي يتم تصنيفنا تلقائياً على أساسها في هذه الحياة بدءاً من المظهر الخارجي والجنسية والديانة والعرق والتي تجعل الأغلبية في وضعٍ دفاعي مستمر حتى آخر العمر، وهو ما يجعل أغلبنا يشعر بالتمييز الذي يخلق بدوره في أعماقنا شعوراً ما بالشجن والحزن، وإن أنكر ذلك وغلفه بعباراتٍ حماسية صلبة وشجاعة، لكننا جميعاً نشترك في القدرة على الإختيار والبدء من جديد فقط إذا اقترن ذلك برغبةٍ حقيقية في التغيير، والتعامل مع تلك الرغبة بالوعي والإدراك الكافيين لما سيصادفه أيٌ منا في تلك الرحلة من عقبات لأنها كذلك، والتي تبدأ أولى مراحلها بكلمةٍ تتكون من حرفين هي.. لا..

فالتحلي بالقدرة على الرفض، رفض أي شيءٍ لا يناسبنا ليس دائماً بالسهل سواءاً كان ذلك بسبب صعوبة الموقف أو كان بسبب اعتيادنا على القبول الذي سيتطلب مجهوداً لكسر تلك الصورة التي اعتادها الآخرون عنا والتي لم تكن في صالحنا دوماً، وكلمة (لا) تعني ببساطة أن كلاً منا وصل إلى مرحلة ٍ معينة من النضج والتعب والإكتفاء والتشبع على أكثر من صعيد وفي أكثر من موقف دفعه للتغيير، وجعلته يختار تحمل العواقب بحثاً عن الحرية، السعادة، الراحة، أو السلام الداخلي، ويختار التمرد على وضع ٍ أو وسط لا ينتمي إليه أو التخلص من وجود بعض العلاقات أو الأشخاص في حياته لأنها لا تناسبه أو لم تعد تناسبه في المرحلة التي يعيشها والتي اختلفت كثيراً عن تلك التي شهدت دخولهم إلى عالمه..

وبطبيعة الحال يظل عالقاً في أذهان أغلبنا بعض المشاهد التي رأيناها في بيوتنا مع أمهاتنا أو الأشخاص الذين عشنا معهم، وأحدها مشاهد الترتيب الذي تقوم به أي سيدة وينبغي أن يكون بمثابة سلوك بشريٍ عام، حيث كنا نرى أمهاتنا في المواسم أو في أيامٍ معينة من السنة تقوم بفرز الأشياء التي تستخدمها لتفصلها عن تلك التي لم تعد صالحةً للإستهلاك أو لم تعد ذات فائدة ٍ في حياتنا، والتي اصطلح على تسميتها ب(الكراكيب) في العديد من لهجات بلادنا، فنقوم برميها أو اعطائها لشخصٍ قد يستطيع الإستفادة منها (إن كانت في حالة جيدة) بحثاً عن مساحاتٍ أكبر، حتى وإن كانت مساحات ٍ فارغة لكنها تبعث نوعاً من الراحة في النفس بدلاً من تكديس الكثير من الأشياء دون فائدة، واعتقاداً منا أنها ذات ضرورة أو قد نحتاج إليها يوماً ما، والتي بدورها ستترك المجال لأشياء ٍ جديدة قادمة في حياتنا لم تكن لتجد مكانها بيننا طالما أن الأماكن مكتظة بما لا ينفع..

وفي كثيرٍ من الأحيان نقنع أنفسنا لأسباب ٍ عاطفية بضرورة عدم التخلي عن بعضها لأنها قد تحمل بعض الذكريات وهذا شيءٌ وارد وإنساني، لكن التخلص من بعض الذكريات أحياناً هو ضرورة للقدرة على المضي قدماً في الحياة، وكذلك التعامل بنفس المنطق الذكي والحكيم في التوقف في أيامٍ معينة للتفكير، الفرز، الإنتقاء والتدقيق، ثم إختيار ما يصلح لكي يستمر معنا والتخلص مما يرهق روحنا واستبداله بشيءٍ جديد أو ترك مكانه خاوياً بإنتظار أن تملأه الأيام بشكلٍ تلقائي وعفوي، مما ينطبق على قلوبنا كما هي بيوتنا إيماناً مني بأن القلب هو بيت، وأن البيت بمثابة القلب لذلك قد يكون هناك الكثير من أوجه الشبه بينهما وفي طريقة التعامل مع كليهما وفي النظرة إلى العلاقات التي تحتل مكانةً في نفوسنا كما تشغل العديد من الأشياء مساحةً في حياتنا، والبقاء فيها سيكون للأصدق، الأصلح، الأوفى والأكثر عاطفةً، لأن أولى خطوات التغيير هو أن نعرف أنفسنا ونعرف ماذا تريد وكيف نسعدها ومن يسعدها ومن الذي سنضحي لأجله لأنه سيقوم بدوره بذلك.. وكفانا تأجيلاً للتغيير انتظاراً لعودة ما لا يعود ولن يعود وإن آلمتنا تلك الحقيقة، ولنتعامل مع قلوبنا كالقصور الأثرية التي تحتاج ترميماً واهتماماً دائمًا حفاظاً على أصالتها ورونقها، والتي يليق بها أن تختار زائريها لا أن يختارها الزوار، فالقصور تحتضن النفائس والقلوب العظيمة لا يجدر بها أن تتحول إلى أقبيةٍ تخنق أصحابها لأنهم عجزوا عن الرفض..