القصّة التي رواها لي صديقٌ عن قرية نائية أثارت لديّ رغبة إنسانية لتصويرها بالكلمات.
قال الصديق : لا أدري أرأيتُها في الحلم ، أم جمح بي خيالي الى تصوّرها.. أم قرأتُ عنها في كتاب نسيتُ أسمه.. بيد أني كنتُ أتوقُ الى وجود مثل هذه القرية في أماكن من العالم.. قريةٌ لا يتجاوزُ عددُ أُناسها خمسين الف نسمة، ألوانُهم قوسُ قزح.. مختلفةٌ أديانهم، قومياتهم ، شيءٌ واحدٌ يجمعهم: حبّهم لقريتهم، حبّهم لبعضهم ، ثريّةٌ أرضُهم، يزرعون فيأكلون، وكذا حيواناتهم وطيورهم : يُمدّونها بالحياة فتُمدُّهم بها.. يصنعون كلّ حاجاتهم: عمالُهم، أطباؤهم، مهندسوهم، معلموهم، منهم.. مخلصون مُتفانون في أعمالهم.. هذا الثراءٌ والألفة والسلام أسال لعاب أناس ِمدن وقرى…حسدُهم وجشعهم أعماهم عن رؤية الحقيقة ، ما ظنّوا أنّ أهل القرية هذه يمتلكون عقولاً راجحة أهّلتهم لأن يتخذوا الحماية التي تُقبرُ شرور مَنْ تسوّلُ له نفسُه غزوَ قريتهم والاستحواذ على كنوزها..سوّروها بأقفاص تضمُّ ببغاوات علّموها.. درّسوها ما يُذهلُ الأشرار الطامعين، وكما يُعلّمون أولادهم.. علّموها: ازرعْ حبّاً تحصدْ سلماً..ازرعْ جهلاً تحصُد جشعاً.. ازرعْ حقداً تحصد أعداءً..
لم يكتف ِ أهلُ القرية العقلاء بهذا، بل قاموا بزرع بذور الحبّ في محيط قريتهم، فتفتّحتْ زهورٌ ملوّنة فاح أريجُها.
للطامعين الجشعين أفواهٌ لا تشبعُ، وجيوبٌ لا تكتفي بما سرقته .
ذات يوم نصبوا دباباتهم وأعتدتهم الحربية أمام أسوار تلك القرية الآمنة، تطلّعوا الى المنافذ التي تؤهلهم لغزوها… اقتربوا.. اقتربوا واذا بلغة الببغاوات تُهاجمهم.. ازرعْ جهلاً تحصدْ جشعاً .. سارعوا الى بنادقهم يُصوّنها نحو الببغاء الناطقة ، غشيهم الذهولُ حين ارتفعت اصواتُ عشرات الببغاوات.. غادروا مكانهم … الى يسار القرية، اقتربوا منها، واذا صوتٌ يخترقُ آذانهم : ازرعْ حقداً تحصدْ أعداءً.. تحوّلوا الى ضلع آخر من أضلاع القرية ، دنوا منه واذا بالأصوات تعلو: ازرعْ حبّاً تحصدْ سلماً.
كان النسيمُ قد حمل ارج الزهور الى أنوفهم التي تربّت على شمّ الدماء.. فتنسموا عطوراً أنعشتهم فذبُل حبّهم للدم حتى تلاشى.. عادوا بدباباتهم وعتادهم وقد تبدّلت وجوهُهم وأفاقت ضمائرُهم فأحسّوا صحوة الانتصار على ما في نفوسهم…