23 ديسمبر، 2024 6:29 ص

القرآن محاولة لقراءة مغايرة 21

القرآن محاولة لقراءة مغايرة 21

وَإِذا قيلَ لَهُم لا تُفسِدوا فِي الأَرضِ قالوا إِنَّما نَحنُ مُصلِحونَ (11)
هذا ديدن القرآن، ألا هو وصمه لمخالفيه بمختلف النعوت، ومنها (الفساد في الأرض)، ونعلم من خلال متابعة هذا المصطلح القرآني، إن الإسلام في الأرض يبيح قتل مرتكبي الفساد، وكما نعلم إن أحد معاني الفساد في الأرض هو أن يدين (المفسد) حسب معايير الإسلام بعقيدة فاسدة، ونعلم إن كل عقيدة غير عقيدة الإسلام هي بمعاييره عقيدة باطلة وفاسدة، فهي عقيدة ضلال وكفر وفساد. ولكن بقطع النظر عن المصاديق، وعما تقصده الآية منها، فكثير من المفسدين يفسدون وهم يدّعون أنهم مصلحون، وهؤلاء هم الكاذبون، أو من ينطبق عليهم وصف (الظلومين) الواردة في آية عرض الأمانة، ولكن كثيرا من المفسدين يظنون بصدق أنهم إنما هم مصلحون، وهم من ينطبق عليهم وصف (الجهولين) الواردة في نفس الآية، وهذا ما سنتناوله في مناقشة الآية اللاحقة.

أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدونَ وَلاكِن لّا يَعلَمونَ (12)

من الطبيعي إن القرآن عندما ينعت جماعة من الناس، بأنهم مفسدون أو ضالون أو كافرون، لا لشيء إلا لأنهم على غير دينه، سيجيب هؤلاء بحسب قناعتهم هم، إنما هم مصلحون وليسوا مفسدين، وإنما هم مهتدون وليسوا ضالين، وإنما هم مؤمنون وليسوا كافرين. ومن الطبيعي أيضا أن القرآن سيجيب، كما سيجيب أتباع كل دين وفرقة يظنون أن الحق معهم وحسب، وكل من سواهم على باطل، بمثل ما تجيب هذه الآية (أَلا إِنَّهُم هُمُ الـمُفسِدونَ)، وهذا جدل عقيم، فكما يتخاصم شخصان ويتقاضان أمام قاض، وبدلا من إيراد أدلة الإدانة من المشتكي وأدلة البراءة من المشتكى عليه، ترى إن كل طرف يقول للآخر: لا تكذب، فيجيب الآخر، إنما أنا صادق وأنت الكذاب، فيرد ذاك، لا والله إنك لأنت الكذاب، وإني من الصادقين، وهكذا، نرى هذه المقاطع من القرآن تتعامل على هذا النحو. ولكن ضمنا يقر القرآن هنا من حيث لا يقصد على نسبية الحقائق، فهؤلاء مفسدون حسب رأيه، وهم حسب قناعتهم من حيث النية مصلحون، ويفترض ألا يعاقب إنسان على خطأ التشخيص، إذا ما سلمت نواياه، فالقرآن يدين هؤلاء غير المقتنعين بالإسلام بأنهم (هُمُ المـُفسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَعلَمونَ). هم إذن يعتقدون صادقين بصلاح توجهاتهم، وبأن ما يمارسونه من رفض لدعوى إلهية القرآن إنما ينطلق من الرغبة في الإصلاح، لأن تنبيه الناس على كذب دعوى معينة، بحسب قناعة المكذب، حتى لو افترضنا صدقها، هو نوع من الممارسة الإصلاحية التي تتوخى الصالح العام، من حيث الحرص على ألا يصدق الناس ما هو غير صادق، لما يشخص هؤلاء المعتقدون بكذب تلك الدعوى من آثار سلبية خطيرة من خلال تصديق ما هو غير صادق، حتى مع فرض حسن نوايا المدعي لمدعاه غير الصادق. إذن قضيتا الإصلاح والإفساد قضيتان نسبيتان، يراها كل فريق من زاوية قناعاته. فما زالوا لم يكونوا يعلمون ويعون أنهم مفسدون، ويظنون أنفسهم أنهم مصلحون، فهل يستحقون عندها كل العذاب الأخروي الأبدي بالغ القسوة بسبب أنهم أفسدوا من حيث أرادوا أن يصلحوا؟ أفلا تنطبق عليهم قاعدة «إنما الأعمال بالنيات»؟ أم إن القواعد والمبادئ التي تعود على المعني بها بالفائدة، هي خاصة بالمسلمين حصرا؟ نعم سيأتي الجواب بأن الآية تعني أولئك الذين يعلمون انهم مفسدون، ويدعون كذبا أنهم مصلحون، حقيقة أو ادعاءً أو ظنا منهم. ثم يثار هنا أيضا الإشكال على التعميم والإطلاق، فالذين أظهروا إيمانهم بمحمد ودينه وكتابه، وأضمروا عدم إيمانهم، لا يمكن أن نتصور أنهم كلهم من المفسدين، ولا أنهم كلهم من المنافقين، إلا بما هو الفساد وبما هو النفاق حسب فهم أو توهم أو ادعاء مؤسس الإسلام. دون أن ننفي إن فريقا من الذين عنتهم الآية ممن تنطبق عليهم بعض الأوصاف المذكورة.