18 ديسمبر، 2024 6:46 م

لأنَّ المرحومة والدتي كانت معلمة في تلك المدرسة الابتدائية للبنات، مدرسة الإلهام، فقد سمح لها بأن تسجلني طالبًا في هذه المدرسة، استثناءً، تقديرًا لظروف عائلية “قاهرة”. وإذا كنت، صبيًّا، أتحرج من مضايقات أقراني من أبناء الحارة عندما يقولون “يداوم مع البنات”، سخرية واستخفافًا، بذكوريتي، إلا أني طالما تذكرت كوني “ابن المعلمة” وهو حال مدعاة للتفاخر. لذا، فقد تأهلت لتعامل تربوي تفضيلي، الأمر الذي يفسر اختياري “الطالب القدوة” في كل فصل دراسي أحضره، ليس لأني أكثر تميزًا من زميلاتي البنات في ذات الصف، ولكن (على أغلب الاحتمال) لأن والدتي هي “معلمة الصف والمدرسة”!
والحق، تنتابني مشاعر فياضة من السعادة والحبور كلما تذكرت وقوفي أمام الطالبات (في الاصطفاف الصباحي) وهن يصفقن لي بسبب اختياري “الطالب القدوة” أو “فارس الصف” دون غيري. أستذكر هذه التقاليد التربوية المفيدة من تلك الحقبة المطوية من “تاريخ المعارف” في العراق نظرًا لفائدتها. وكما عليه حال تقليد “الأستاذ الأول” الذي استذكرته في مقالة سابقة لــ”الوطن” الغرَّاء، فإني أورد اليوم تقليد “الطالب القدوة”، نموذجًا تربويًّا مفيدًا يمكن لمؤسساتنا التربوية والتعليمية اعتماده لتقوية وترسيخ روح التنافس العلمي والسلوكي في المدارس (من الابتدائية حتى الثانوية، بل والجامعية كذلك).
يوقد التنافس على نيل لقب “الطالب القدوة” فعاليات تنافسية طيبة ومفيدة، نظرًا لاعتماده معايير”التفوق الدراسي” و”السلوك القويم” و”النظافة” و”حسن الهندام” و”الروح التعاونية” و”التشبث بالتميز” لدى كل تلميذ في مدرسة ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية وهي دافعية مفيدة، إذ يتبختر “القدوة” بين أقرانه بسبب تميُّزه في جميع المعايير المعتمدة لاختيار “الطالب القدوة”.
وإذا كان الله قد خلق البشر غير متجانسين وعلى درجات، فإن التنافس على التميُّز في أحد الحقول المشروعة كالتفوق العلمي ينبغي أن يرصد ويكرم، إن ماديًّا أو اعتباريًّا.
بل إن الأهم مما تقدم كله في عملية استلال الطالب القدوة على مستوى الصف الدراسي، ثم المدرسي والجامعي إنما يتجسد في أن هذا “القدوة” لا يسمى قدوةً من قبل الإدارة أو المعلمين، وإنما يتم انتقاؤه انتخابًا من قبل زملائه في الصف وأقرانه في المدرسة. وهكذا، يسمو “القدوة” فوق المحسوبية والمنسوبية وسواها من الاعتبارات.
للمرء أن يستذكر هذه التقاليد المدرسية الطريقة التي اعتمدت في مراحل مطوية من تاريخنا، ليس كاستعراضات غير مجدية، وإنما كتقاليد دافعة تخدم الأمة والمجتمع على المديات القصيرة والبعيدة.