23 ديسمبر، 2024 7:17 ص

القتلى طائفيون أيضا

القتلى طائفيون أيضا

العالم كله، بحكوماته ومنظماته وإعلامه، لا يجرؤ على قول كلمة احتجاج واحدة على ما يجري في العراق بسبب خشيته من غضب الدولة الأعظم.
مَن قُتل معروف أما مَن قتل فلا تهم معروفة هويته. تلك نظرية القتل التي لا يختلف عليها القتلة. القتلى وحدهم يعيشون نزاعا من أجل معرفة مَن قتلهم. هل ستكون معرفة دوافعه للقيام بذلك ضرورية؟ أشك في ذلك. ليست هناك ذريعة مقنعة للموت العبثي.

حين توجّهت ماكنة القتل إلى الموصل، المدينة التي سلمها الجيش العراقي إلى داعش من غير قتال، كان الشعار جاهزا وهو “الحرب على الإرهاب”.

لا أحد في إمكانه أن يعترض.

كان الجيش العراقي حين هروبه قد وهب التنظيم الإرهابي أسلحة أميركية متطورة، ومنحه ثلاث سنوات ليقضي أثناءها على كل صوت مناهض له في المدينة المستباحة بطريقة مريحة من قبل جند الخلافة.

أما حين قررت الولايات المتحدة أن الأوان قد حان لتحرير المدينة، فإن الأنباء قد أكدت أن داعش الأصلي قد غادر المدينة ولم يبق إلا داعش المصنوع محليا. فهل كان صعبا على الولايات المتحدة أن تجري مفاوضات مع أبناء المدينة من أجل تسليم أسلحتهم وإنهاء ظاهرة العصيان المسلح؟

شيء من هذا القبيل لم يكن مسموحا به أميركيا ولا إيرانيا.

ليس صحيحا أن الدواعش المحليون قرروا بأنفسهم أن يموتوا بل كان ذلك القرار أميركيا. كانت القيادة العسكرية الأميركية قد أقرت القتل وسيلة وحيدة للتعامل معهم. وهو ما يعني أن خيار الموت انتحارا كان نابعا من قرار القتل الأميركي الذي لا تراجع عنه.

لقد قُدّرَ للمدينة أن تُباد. كان ذلك ما عرفه أبناء المدينة الذين تأكدوا أنهم قد تُركوا وحدهم في مواجهة آلة القتل الأميركية التي غالبا ما كانت تظهر على هيئة حشود عراقية، جيشا وشرطة وحشدا شعبيا.

قال الأميركيون كلمتهم “لن يخرج أحد من داعش حيا من المدينة”، وهو ما يعني أن لا أحد من شباب المدينة سيخرج حيا. لا لأن داعش المحلي يتألف من كل شباب المدينة، بل لأن أولئك الشباب من وجهة نظر أميركية هم بقايا داعش التي ينبغي إزالته نهائيا.

وهي وجهة نظر الحكومة العراقية أيضا. ولكن الحكومة العراقية لا ترى الأمور إلا بعين طائفية، فهل أصيب الأميركيون بالعدوى الطائفية؟

لا مجال هنا لإنكار حقيقة أن لدى الولايات المتحدة ومنذ اليوم لاحتلالها العراق مشكلة مع العرب السنة. ما حدث فعلا أن شيعة العراق وأكراده استسلموا للاحتلال فيما رفضه العرب السنة بل وقاوموه وكبدوه خسائر كبيرة. لا يهم هنا التفسير الجاهز لتلك المقاومة الذي يفرغها من جانبها الوطني ليعتبرها نوعا من محاولة استعادة الحكم على أساس طائفي.

التاريخ يقول “إن العرب السنة وحدهم مَن قاوم المحتل في العراق”.

لذلك فقد مورست تحت أنظار الأميركيين شتى صنوف القهر والعزل والتهميش والإذلال والاعتقال والتجويع والحصار في حق المناطق ذات الأغلبية السنية عبر السنوات الثمان التي حكم فيها نوري المالكي وكان العراق في الجزء الأكبر منها بلدا محتلا.

لقد ضُربت المدن السنية في العراق بكوارث لم تشهدها على مر العصور مدن عالمية كانت قد سبقتها إلى الحروب. فالفلوجة هي حدث استثنائي في تاريخ الشقاء الإنساني. لقد ضُربت تلك المدينة بأكثر أنواع الأسلحة قذارة وأشدها بطشا. وأخيرا تم محوها بحجة داعش.

الموصل تواجه اليوم المصير نفسه.

ما بين دوري الجاني والشاهد كانت الولايات المتحدة حاضرة في كل عمليات القتل التي تعرض لها العرب السنة في العراق. ما يؤكد ذلك أن العالم كله، بحكوماته ومنظماته وإعلامه، لا يجرؤ على قول كلمة احتجاج واحدة على ما يجري في العراق بسبب خشيته من غضب الدولة الأعظم.

العالم كله يمارس عزلا طائفيا على الضحايا ليثبت لنفسه كذبا أن القتلى طائفيون أيضا.
نقلا عن العرب