23 ديسمبر، 2024 1:57 ص

(القبوريـّـون) … وديماغوجية الدين السياسي

(القبوريـّـون) … وديماغوجية الدين السياسي

كأي مفردة قابلة للانزياح نحو التغيير في المعنى الاصطلاحي ، تحولت كلمة (زوّار) القبور إلى انزياحات كثيرة ، فتحول المعنى اللغوي لمفردة الــ (زوّار) إلى استخدام (اصطلاحي) جديد يعني الــ (عُبّاد) ، وبالتالي ، فقد تحول (زوّار القبور) إلى (عُبّاد القبور) ، ثم أصبحت دليلاً وإشارة إلى (الإشراك) ، بحكم وجود كلمة (العبادة) التي نجد لها آثاراً قرآنية تعزز من معنى الاشراك لدى بعض التفسيرات .

وبالنتيجة ، فقد دخل الاختزال إلى هذا المصطلح ، بعد أن آتى أوكُله ، فتحول إلى مصطلح (عُبـّـاد القبور) ، ليدل دلالة شاملة لدى الوعي الجمعي على (الاشراك بالله) الواضح لدى (زوّار القبور) ، وما يترتب عليه من آثار (فقهية) تبدو في ظاهرها (دينية) ، ولكنها تستبطن (السياسة) في الهدف المراد منها .

غالباً ما تطلق كلمة (القبوريون) على (الشيعة) المسلمين من أتباع الشريعة المحمدية ، بحكم زيارتهم لأضرحة ومشاهد أئمتهم الإثني عشر (المعصومين) المنتسبين إلى سلالة بني هاشم ، والمنبثقين – حصراً – من ذرية علي وفاطمة ، والذين يبدأون من علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين أولاد فاطمة الزهراء وينتهون إلى محمد بن الحسن العسكري (عليهم السلام) ، والذي يسميه الشيعة الامامية الاثني عشرية بــ (المهدي المنتظر) ، والذي تشير موروثاتهم وأدبياتهم على إنه (غائب) ، وسيظهر يوماً ما ، لــكي (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً) .

ولا تقتصر زيارات الشيعة لأضرحة ومشاهد أئمتهم المعصومين فقط ، بل تتعداها لزيارة قبور وأضرحة أبناء الأئمة ، وعلماء الشيعة ، وأصحاب الأئمة في العراق ، وبقية دول المنطقة العربية وإيران ، بل وصل الأمر لزيارة أضرحة وأماكن تواجد الاشخاص الذين تثبت (كرامتهم) وخرقهم للعادات الكونية .

والحقيقة إن مصطلح (القبوريون) لم يكن مقتصراً على الشيعة فقط ، بل يمتد ليشمل الجمهور من أتباع الشريعة المحمدية ممن يمارسون طقوس زيارة القبور في المشاهد التي يعتبرونها مقدسة بقدسية (ساكنيها) من أئمة الفرق والمذاهب (السنيّة) والفقهاء والمشايخ و (المتصوفة) ، الذين يرون في زيارة هذه الأضرحة والمشاهد وفاءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ووفاءً لأصحاب الأضرحة والمشاهد ، واستزادة في التبرك بهذه الأماكن ، ومثابة للتعبد والتخلية والتحلية والتجلية ، وأمكنة يستجاب فيها الدعاء ، ضمن معتقد يراه الآخرون (بدعة وشركاً) .

وبالرغم من إنّ الأثار المترتبة على إطلاق مصطلح (القبوريون) ضد الشيعة والمتصوفة – ومن يحذو حذوهم في زيارة الآضرحة والمشاهد – قد أصبح لدى المدارس المتطرفة الإسلاموية وسيلة للتكفير والاتهام بالشرك ، ولكننا نجد إن آثار هذا الاطلاق أقل وطأة وعنفاً في التعامل مع ممارسات أتباع الشرائع الأخرى التي تتبنى زيارة القبور والتعبد بها ، لأن أبناء الشرائع الأخرى – أساساً – هم (مشركون وكافرون) في نظر المدارس التكفيرية (الاسلاموية) ، فضلاً عن كونهم (قبوريون) ، ولهذا ، فقد آتى مصطلح (القبوريون) نتاجه (السياسي – القمعي) ضمن محيط (الشريعة المحمدية) أكثر من نتاجه مع بقية أبناء الشرائع الأخرى .

إن المدارس التكفيرية – المحسوبة تأريخياً وفقهياً على (أهل السنة) – لم تقتصر في حربها وإذكاء الكراهية ضد الشيعة على مصطلح (القبوريون) فقط ، بل تعدته إلى إلصاق التهم التاريخية غير القابلة للنسيان ، أمثال (سب الصحابة) و (الاساءة لأمهات المؤمنين) وغيرها من (التهم) التي لا يمكن (نقضها) مجتمعياً ، بسبب انتشار الثقافة (السمعية) بين أفراد المجتمع ، وتأثر الوعي الجمعي بما يطرحه أئمة المساجد من أفكار ضمن حلقاتهم التثقيفية ، وضمن خطب الجمعة التي أصبح الكثير منها وبالاً على المجتمع ، وأصبحت وسيلة من وسائل إذكاء وإشعال الأحقاد والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد .

وبالرغم من إعتماد المدارس التكفيرية على إلصاق تهمة (سب الصحابة) و (الاساءة لأمهات المؤمنين) بالشيعة ، واعتبارهما ضمانتين لخلق (النفور النفسي) لدى أبناء السنة ضد الشيعة ، ولكن هذا النفور لا يكفي ، بل يجب أن تلحق به وسيلة أخرى لضمان (النفور العقائدي) لدى الجمهور السني ضد (الشيعة) والتشيع ، فجاء إتهام الشيعة بـــ (عبادة القبور) الذي تطور فيما بعد إلى (الاشراك) ، ليدخل في حيز (العقيدة) ، وليأخذ أحقية (النفور والكراهية والمصادرة والتغييب) في نفوس أبناء السنة ضد إخوتهم الشيعة ، وليصيب (عقائد الشيعة) بمقتلة لدى الوعي الجمعي السني ، ويضع الشيعة في موضع لا تنفع معه مغفرة أو احتواء أو (توبة) ، مما يجعل دمائهم وأرواحهم وممتلكاتهم (هدفاً) لكل رامٍ ، محفوفاً بـ (قصد القربة) لوجه الله تعالى ، وتحت ذريعة الانتصار للاسلام ، ومحاربة الشرك والبدع والردة .

ورغم أن الموروث الروائي في صحاح أهل السنة وكتبهم المعتبرة تضج بــ (سب الصحابة) ، والنيل من أمهات المؤمنين (رضي الله عنهن وعنهم) ، ولكن هذه التهمة أو الجناية قد أصبحت (صفة ملحقة بالشيعة) ، لتصبح من أهم وسائل تحفيز وتعبئة وتأجيج الحقد السني ضد الشيعة ، لأسباب بدأت (سياسية) لتنتهي (سياسية) محضة ، يراد منها تفتيت وحدة أتباع الشريعة المحمدية ، وإضعاف شوكتهم ، وإشغالهم بأنفسهم وخلافاتهم عن التأسيس لمستقبلهم ، أو التصدي للمؤامرات التي تحاك ضدهم ، بل وإشغالهم بمشاكلهم وحروبهم (الطائفية – السياسية) الداخلية عن التصدي لخطوات استكمال المشروع (الصهيو – أمريكي) في المنطقة العربية (خصوصاً) والعالم الاسلامي (عموماً) .

إن من أخطر ما يعانيه مجتمع أتباع الشريعة المحمدية من (الفريقين) ، هو وجود (الحمقى) الذين يعتمدون (الثقافة السمعية) في توجيه أفكارهم وسلوكهم داخل المجتمع ، وخضوعهم لمطارق التأثير النفسي التي تصنعها الخطابات (الطائفية) ، دون الالتفات إلى الأيادي الخفية التي تستهدف وحدة صفهم ، ودون الانتباه إلى نتائج (الفتن) الطائفية ، والجهات المستفيدة منها .

وصحيح أن انتشار وسائل الاعلام (المقروءة والمسموعة والمرئية) قد أدى بدوره إلى المزيد من الأحقاد وإذكاء روح الكراهية بين أتباع الشريعة المحمدية أنفسهم ، بل وبين أفراد المذهب الواحد أو الطائفة الواحدة ، بفعل ما أنتجته وسائل التواصل الإجتماعي ، والفضائيات المؤدلجة ، ولكن ، بنفس الوقت ، لا ينكر أحد بأنها قد خلقت جيلاً جديداً من الواعين والمثقفين من الإخوة والأحبة والشركاء في المحنة والدين والانسانية من السنـّـة ، الذين يستغلون (سهولة) الحصول على المعلومة الدقيقة التي من شأنها أن تكشف لهم عن خبايا ومكنونات الوقائع التأريخية الحقيقية ، وعدم اعتماد التصريحات والخطابات غير المسؤولة وغير الواعية التي تصدر عن الــ (حمقى) والنكرات من (الشيعة) ، ليتجاوزوها إلى أقوال وفتاوى وتصريحات وبيانات ومؤلفات كبار علماء ومراجع ومثقفي الشيعة التي تستنكر الاعتداء على مقدسات ورموز أهل السنة ، وتحرم وتجرّم المساس بأمهات المؤمنين (رضي الله عنهن) ، والتي أوصلتهم إلى فهم حقيقة متبنيات الفكر الشيعي وأدبياته وأصوله الفقهية والعقدية ، وساعدتهم كثيراً على بناء أفكارهم وتوجهاتهم السياسية والعقائدية ، وغيرت من سلوكهم نحو مستويات أفضل في الأداء .

إن أسلوب التأجيج الطائفي أو المذهبي يبدو واضحاً في ازدواجية التعامل لدى أتباع الثقافة السمعية الذين تصح تسميتهم بــ (المعوقين فكرياً) ، حين تجد التأثير (الثقافي) السمعي (المشيخي) واضحاً لدى هؤلاء ، حيث يمكنك (الوقوف) على أي باب لأي (مرقد) من مراقد أئمة أهل السنة ، وتنتخب أي زائر يخرج من هذا المزار ، فتسأله عن رأيه بالشيعة ، ولا غرابة أن سمعت من أحدهم – وليس كلهم طبعاً – بأن الشيعة هم :- (روافض ، كفرة ، مشركون ، أبناء متعة ، يسبون الصحابة ، ويتهمون أمنا عائشة بالفاحشة ، ويعبدون القبور) ، متناسياً بأنه :- قد خرج توّاً من زيارة أحد القبور .

ورغم إن (معوقي الفكر) من أتباع (الثقافة السمعية) يشكلون خطراً على المجتمع حين تتحول ثقافتهم إلى وسيلة للحقد والكراهية ، ولكن الأخطر منهم هم علماء الدين المحكومون بالحقد المسبق والموروث ، أو أصحاب الأجندات (الطائفية) الذين يختارون من (النصوص) والموروث الروائي ، وفتاوى الفقهاء ، والتفسيرات ما يطابق أمراضهم النفسية ، وأحقادهم المكتنزة في صدورهم العامرة بفيروسات تغييب الآخر ، فيحولونها إلى قناعات مصطبغة بصبغة (الدين والتدين) ، ويزقونها أفواه (البسطاء) ، ممزوجة بنكهة (ديماغوجية) .

إن أساطين الفتن الطائفية هم خبراء (إجتماعيون) ، يعرفون بأن السواد الأعظم ممن يجلس تحت منابرهم ، أو ممن يتابع مقاطعهم الفيديوية ، أو ممن يستمع لمحاظراتهم (الدينية) ، هم ممن يستأنسون بالسماع أكثر من القراءة والبحث والتقصي والتحقيق ، ولذا ، فهم يستغلون هذه (الخاصية) ، لينفثوا سمومهم بين صفوف أتباعهم ومريديهم ، ويوجهونهم بالاتجاه الذي يذكي الحقد الطائفي وينميه .

إن المشاهدات الميدانية أثبتت أن كثيراً من المصابين بفايروس الحقد الطائفي لا يعرفون حقيقة المصطلحات والمفردات التي يستخدمونها في اتهام الشيعة بالشرك والكفر وغيرها ، فلو أنك سألت أحد المأخوذين بالفكر الطائفي (المشيخي) عن حدود الشرك أو الكفر ، وأنواعه ، والآثار المترتبة عليه ، ومتى تلصق صفة الكفر أو الشرك بالانسان ، وما هي حدود التصرف مع الكافر أو المشرك ، وما هي الأدلة التي تثبت بأن الشيعة يتهمون أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) بالفاحشة ، وأين يوجد هذا في مصادر الشيعة المعتبرة ، وما هي أدلة (أحلية أو حرمة) الزواج المنقطع (المتعة) ، وما هي آلية تعامل الشيعة مع الصحابة ، وعن أي الصحابة يترضى الشيعة وأيهم يلعنون ، وما هي حدود الصحبة ، لاكتفى بما طرق سمعه من (شيخه) الذي يقتدي به ، دون الرجوع إلى الدليل .

إن نتاج ومخلفات الثقافة السمعية والتقليد الأعمى ، هما أحد أسباب نشوء الفكر التكفيري المتطرف ، والذي أنتج (داعش) وأخواتها ، وكان سبباً من أسباب إصطباغ مدرسة الصحابة بصبغة دعم واحتضان وتفريخ (الارهاب) ، وهي فاتورة يدفعها مثقفو أهل السنة رغم إرادتهم ، ودون أن يكون لهم دخل فيها .

راسم المرواني