27 ديسمبر، 2024 10:49 م

القبضوية من القبض وهو خلاف البسط , وتعني الإنقباض , ويُقال: قبض الطائر جناحه أي ضمه , وقبض الشيئ قبضا أي أخذه , والإنقباض خلاف الإنبساط , وإنقبض الشيئ أي صار مقبوضا.
والقبضوية منهج سلوكي يسري في أنظمة الحكم على مر العصور , ويعني أن الشخص أو الحزب أو الفئة والعائلة وغيرها من التسميات تقبض على السلطة , وتتحكم بمصير البشر الذي تخضعه لأمرها وسطوتها.
وهي تقبض أي تأخذ وتتمسك وتفعل ما بوسعها لإدامة قوة قبضتها على كرسي الحكم , وبواسطته تحقق رغباتها وترضي أهواءها.
والقابض يكون مرهونا بمقبوض , فلا قابض من دون شيئ مقبوض , والقبض بحاجة لقوة وطاقة وحِيَّل لإدامة قدرات القبض والتمسك بالمقبوض عليه.
وكل قبضة إلى إنبساط , فلا يمكن لفعل القبض أن يدوم , لأنه يتنافى وطبيعة الأشياء وفسلجة التفاعل في عالم الأحياء , ذلك أنك لا يمكنك أن تقبض يدك بقوة لفترة طويلة , بل لا يمكنك أن تفعل ذلك لدقائق معدودة , إذ لا بد من الإنبساط , فلكي تكون القبضة قوية يجب أن يتحقق الإنبساط , والإسترخاء.
وهذا المفهوم ينطبق على السلوك البشري بأنواعه , ومنه سلوك التسلط أو القبض على الحكم , الذي يتسبب بتأجيج طاقات التفاعل السلبي مع المقبوض عليه , فكل مقبوض يسعى لتحرير إرادته من القبضة التي تتحكم بمصيره.
ولكي تنجو القبضة من الإنبساط لا بد لها أن تقضي على المقبوض عليه وتدمره , وتستنزف قدراته وتسكره بما تستطيع من خمور الويلات والتداعيات الإنهاكية , الكفيلة بتدويخه وتعزيز ترنحه وغثيانه وإضطرابه.
فالمفترسات عندما تقبض على فريسة تقتلها أولا , وذلك بالإطباق على عنقها لكي تنبسط وتأكلها بجهد قليل , وإن لم تقتلها فأنها ستبذل جهدا أكبر وربما تصاب بأضرار.
والمنهج القبضوي يسري في أنظمة الحكم في المجتمعات المتخلفة , ولهذا تجد القابض على السلطة يشرّع القوانين اللازمة لتعزيز قبضته وخنق المقبوض عليهم وأسرهم في زنزانة حكمه.
وهذه ظاهرة مستشرية في أنظمة الحكم عندنا بأنواعها ما عدا القليل , الذي ربما في طريقه إلى غير ذلك من أساليب الحكم , لكن السائد أن أنظمة حكمنا قبضوية , ولهذا تجد الواقع في أزمات وتفاعلات دامية , لأن القابضون على السلطة يعملون على تشديد قبضتهم وتدعيمها خوفا من التراخي والإنبساط , والسقوط في وحل الإفتراس من قبل قابض جديد.
وفي الواقع العراقي فأن هذا المفهوم قد تجسد بوضوح ساطع , فما أن تهاوت الملكية حتى دخل البلد في دوامة القابض والمقبوض عليه , وتحقق تبادل عجيب للإدوار مما أسهم في تأجيج الصراعات المتواصلة ما بين القابض والمقبوض عليه , فتارة يكون القابض متوحشا , وأخرى يكون المقبوض عليه في حالة من الوحشية المطلقة ذات الشحنات الإنفعالية العارمة.
وأمثلة ذلك تبادل الأدوار ما بين الأحزاب , فقبل ألفين وثلاثة كان حزب يقبض على السلطة ويحسب لن يتمكن أحد من القبض عليه , وإذا بالأحزاب المقبوض عليها تقبض عليه , وتلقمه أفظع ما يمكن لقابض أن يفعله بالذي كان قابضا عليه.
ووفقا لهذا المفهوم فأن التقدم لن يتحقق في البلاد المتأخرة , والحياة لن تتحرك بإتجاهاتها الصائبة , وإنما هي منحدرات ذات تداعيات مريرة , ما دامت غير قادرة على إقامة أنظمة حكم متوازنة راسخة التقاليد والأعراف , وذات قدرة على مُفاعلة الأجيال في وعاء وطني عزيز.
فالأنظمة القبضوية لا فائدة ترتجى من ورائها , ولن تحقق ما هو نافع لها ولمن بقبضتها , لأن حينها سيحين , ولا بد لها أن تبسط قبضتها وتجد نفسها عاجزة على البقاء في سدة الحكم , إلا إذا ساندتها قوى خارجية تحافظ عليها لتأمين مصالحها , لكن الأمر سيتغير لأن المصالح تتبدل , ولا يمكن لنظام واحد أن يخدم مصالح الآخرين للأبد فيكون أمر تغييره حتمي وضربة لازم.
وهكذا تدور الدوائر ويفور تنور الويلات!!