في زمنٍ كثرت فيه المغريات، وقلّت فيه الثوابت، يبقى الحديث عن قاضٍ نزيه مثل الشهيد محمد خلف السبيل حديثًا عن رجولةٍ حقيقية، وعن مبدأٍ لا يُساوم. فهو لم يكن مجرد موظف في سلك القضاء، بل كان صوتًا للحق في زمن الصمت، ومثالًا للعدل حين تخاذل الكثير.
ولا يخفى على أحد أن مهنة القضاء هي مهنة إنسانية شريفة، تحمل في طياتها الكثير من الهموم والمتاعب، خاصة عندما يتحلى القاضي بالنزاهة ويتحرى العدالة في كل زمان ومكان.
ولأننا نعيش في مجتمعات ما زال يحكمها نظام القبيلة والعشيرة، فإن مهمة القاضي النزيه تكون أكثر صعوبة، حيث يقف أمام تحديات المجاملات والوساطات والضغوط، في محاولة دائمة للفصل بين ما تقتضيه التقاليد الاجتماعية وما تفرضه عدالة القانون.
هكذا عرفنا القاضي النزيه، الأستاذ الشهيد محمد خلف السبيل، رحمه الله، فقد كان مثالًا مضيئًا للقاضي العراقي الشريف. كانت عدالته، وابتعاده عن المجاملات، كافية لتكون عنوانًا لنزاهته، وشهادة حية على استقامته.
كانت بداية معرفتي به في تسعينيات القرن الماضي، عندما زارنا في المكتب برفقة الصديق والأخ العزيز الملا حسن السلطان (أبو مؤيد). جاءنا الأستاذ القاضي أبو قيس بسيارة بسيطة، وما زلت أذكر حديثه بتواضع عن انتظاره لموسم الحصاد، آملاً أن تدر أرضه الزراعية الصغيرة محصولًا يعينه على ظروف معيشته. كان حديثه هذا كافيًا ليكشف عمق إنسانيته وابتعاده التام عن مظاهر الترف أو التكبر.
لم يكن يعنيه المال ولا مظاهر الحياة شيئًا، فقد كان يسكن في منزل تابع للدولة قريب من المحكمة، لأنه لم يكن يملك بيتًا في مدينة الموصل حينها، رغم أن بإمكانه في يوم واحد شراء أفخم المنازل لو أراد أن يبيع ضميره، لكنه اختار طريق الكرامة والعفة والنزاهة، وظل صامدًا أمام كل المغريات.
لم أره يومًا، ولم أسمع عنه أنه حكم في قضية مجاملةً لأحد، أو خضع لضغوط عشائرية أو رسمية. بل كان ذلك الرجل الشجاع الذي يقف أمام الخصوم، يبحث عن الحق والعدالة، ويبتعد كل البعد عن الظلم.
إن القضاء – كغيره من مؤسسات الدولة – قد يتأثر أحيانًا بظروف الدولة وتقلبات المرحلة، كما يتأثر أحيانًا بثقافة المجتمع وضغوط العشيرة، إلا أن القاضي محمد خلف السبيل ظل ثابتًا في موقفه، مؤمنًا برسالته، حتى ختم مسيرته بشرف الشهادة.
إن فقدان قامة مثل القاضي محمد خلف السبيل لا يمثل فقط خسارة لعائلته ومحبيه، بل هو خسارة لمؤسسة القضاء بأسرها، ولمجتمع ما زال بحاجة إلى من يعيد إليه الثقة بعدالة القانون.
فرحم الله الشهيد النزيه، وأسكنه فسيح جناته، وجعل من سيرته نبراسًا لكل من يسير في درب العدالة، دون أن تضل خطاه نحو دروب المساومة والضعف…