21 ديسمبر، 2024 5:52 م

القاص أدمون صبري / مِن خلال الشاعر فوزي كريم

القاص أدمون صبري / مِن خلال الشاعر فوزي كريم

 (*)

بعد تكرار قراءتي للمقدمة القيّمة التي كتبها الشاعر والناقد فوزي كريم، قفز  أمامي هذا السؤال :؟ كيف اتحد النقّاد العراقيون ضد هذا القاص العراقي الأعزل؟ ولصالح لمن كان ذلك في الخمسينات والستينات والسبعينات… إلخ

الاتحاد النقدي وهو الأشد قساوة ً جعل القاص أدمون صبري يتساءل بوجع يتصدع منه الحجر(أنني أعيشُ حالة اللاسلب واللا إيجاب. أنني معزول. فلماذا لا يقولون كلمتهم الأخيرة فيّ) هذه الحالة تتكرر، يحدثنا الناقد غالي في كتابه النقدي(الرواية العربية في رحلة العذاب)عن روائي مصر له شهرته العربية وهو الروائي محمد عبد الحليم عبدالله، يخبرنا شكري (رأيته للمرة الأخيرة، ونحن ماضون خلف علي أحمد باكثير إلى مرقده الأخير. إتكأ على ساعدي في حالة من الضعف لم أره عليها،وخاطبني: هل تعلم أن أحد الرهبان الفرنسيسكان قد كتب عني دراسة طويلة في إحدى مجلاتهم المتخصصة؟ صدقني، بكيت يومها ولم أفرح كثيراً، لماذا تتجاهلوني أنتم؟ لا أطمع في تقريظ أو مديح، وإنما أتلهف حقاً على معرفة مكاني بين كتّاب مصر. نلت من الجوائز ما ينأى بي عن الاحساس بالاضطهاد، ولكني لا أدري سببا واضحاً لموقف النقد مني../205)    

(*)

(أدمون صبري دراسة ومختارات) في هذا الكتاب المهم بالنسبة لي،لمست قراءتي  أن الشاعر والناقد فوزي كريم، تعامل بصبر  وحرص نقدي كبير في الفرز القصصي لمجمل الأعمال القصصية للقاص أدمونصبري، وستعمد قراءتي للترقيم

(1)(أريد أن أستعرض في هذه المقدمة بعض الحقائق والوقائع التي تخص نتاج أدمون صبري.)

(2)..(وهي منهج أولي، لا تذهب إلى الدراسة فصيغة الكتاب لا تحتمل ذلك ولكنه يثبت علامات أجدها أساسية، وضعته عوامل عديدة  في عزلة قسرية).. في هاتين النقطتين كشف لنا فوزي كريم أن اشتغاله سيكون علاماتياً:  من خلال توقفه عند خصوصيات القاص، والكشف عن عوامل العزلة القسرية المفروضة عليه من قبل النقد العراقي آنذاك

(*)

يخبرنا فوزي كريم، عن ورشته النقدية الخاصة بقصص صبري، يبدأ إحصائيا (لقد قدم أدمون صبري في حقل القصة القصيرة(12) مجموعة قصصية مطبوعة، تضم (83) قصة قصيرة.(20) قصة منها مكررة في مجموعتين قصصيتين أو في ثلاث مجاميع. وأوقعني هذا المنحى غيرالطبيعي بتعقيدات استدعت جهداً اضافياً.. إذن فحصيلة ما قدمه أدمونصبري من قصص قصيرة لا يتجاوز ال (62) قصة على مدى(23) عاماً، بمعدل (3) قصص كل عام. وهي نسبة لا تدل على غزارة انتاج تثير العجب).. فوق كلمة( العجب) يضع فوزي رقم واحد بين قوسين(1) فتهبط عيناي إلى حاشية الصفحة لأقرأ  ما كتبه فوزي في الحاشية وهو التالي(بالرغم من أن الدكتور عبد الإله أحمد في كتابه القيّم (الأدب القصصي في العراق) لم يشر إلى أدمون صبري إلا في هامش عابر، إلا أن لهجة هذه الإشارة تلفت النظر. يقول الناقد عبد الإله في الهامش (64) من ص95 ج1(( أما أدمون صبري فليس من سبب يبدوا واضحاً لمواصلته العجيبة على نشر كتبه العديدة)) وفي الهامش(72) من ص87ج2 يقول الناقد عبد الاله( ألا أن كاتب هذه القصص، رغم غنى المضامين التي تناولتها قصصه من هذه الناحية، لم يقدم فيما نشره من قصص كثير فاق به انتاج أي قصاص عراقي في تاريخه الحديث، أعمالا قصصية لها قيمتها الحقة..).. على القارئ المقارنة بين كلام فوزي ثم يعود إلى ما نقله فوزي في من الحاشية..

(*)

العنوان التفسيري هو (أدمون صبري ) (دراسة ومختارات)، في ص7 يقوم فوزي بنقض العنوان الذي لصقهُ بعد اسم الروائي قائلا(ولعل كلمة(مختارات) التي ثبتها على هذا الكتاب، لتبدو تعبيراً مجازيا، لأنه عمل تصفية إن صح التعبير- فأنا لم أضطر لاختيار عدد من القصص الممتازة، من بين مجموعة من القصص الجيدة، بل هي محاولة أسقاط وتصفية للركام الرديء الذي لا ينتمي للقصة القصيرة، وإذا شئنا الانصاف، فهو لا ينتمي لروح أدمون نفسه) والقول التالي( لا ينتمي لروح أدمون نفسه) يعني ثمة علاقة وطيدة بين فوزي وأدمون

(*)

هل يعتبر عمل فوزي كريم مع قصص أدمون بصيغة (تحقيق)؟ سنرقم جهد فوزي بهذا الخصوص :

(1) قدّم أدمون صبري في حقل القصة القصيرة (12) مجموعة قصصية مطبوعة، تضم (82) قصة قصيرة. (20) قصة منها مكررة في مجموعتين قصصيتين أو في ثلاث مجاميع
(2) كثيرا ما يعيد الكاتب نشرها بعنوان آخر جديد. ولقد أوقعني هذا المنحى غير الطبيعي بتعقيدات استدعت جهدا اضافيا. فكثيراً

ما كان الكاتب – أذ يعيد نشر قصته يغير بالحذف من صيغتها الاساسية. ونادراً ما يكون هذا التغيير لصالح القصة- سأوضح ذلك فيما بعد، كنت أقرأ القصة في مجموعة نشرت سنة 1970 مثلاً فلا أجدها تصلح للاختيار فأهملها بعلامة خاصة، وسرعان ما اكتشف أنها(صيغة) مستعادة بصورة سيئة لقصة منشورة سنة 1953،فأضطر إلى معاودة قراءتها ومقارنتها ثم أدخلها في المجوعة

(3) استطعت أن أخلص في الاختيار إلى (26) قصة من مجموعة(62)
(4) ولم أطمئن إلى ما خلصت إليه. فهناك من القصص ما أجده على شيء من الضعف، ولكنه ضعف لا يتسع لبنية القصة عامة، بل هو ينوش هذا الجزء من القصة أو ذاك- ولقد لا زمت هذه الصفة السلبية أدمون صبري طوال حياته
(5) لم أجد من اللائق أن أقطع الهزال في قصة ما وأقدمها مبتورة
(6) كما أني لم أجرأ على ألغاء القصة كاملة، فثبتها، لا للمتذوق بل للدارس
(7) القصص التي أخترتها (26) محكومة بصفة صلاحيتها وجودتها- بمرحلتين تاريخيتين، تنتهي الأولى بعام الثورة 1958 وتتمثل المرحلة الثانية السنوات التالية حتى 1973
(8) في السنوات الست الأولى قدم أدمون(27) قصة قصيرة استطعت أن أختار منها، وأنا مطمئن (14)
(9) قدم في (14)عاما، بعد الثورة (47) قصة قصيرة، لم استطع أن أختار منها غير(13) قصة لم تمل علي الاطمئنان السابق

(*)

تلاحظ قراءتي أن فوزي كريم، يجهد نفسه في قراءات متأنية حريصة لأعمال أدمون صبري    يا لها مِن مهنة شاقة تستقوي بصبر معرفي جميل، وبوازع أخلاقي منصف لقاص عراقي خذله النقاد العراقيين ويلمس فوزي وهو ينقّب في قصص صبري (أن الكاتب لم يكن ينضج بفعل اتساع التجربة)والدليل على ذلك أنه (قدّم في سنوات شبابه أكثر قصصه صحة وثراء).. يبدو أن قصصه قبل ثورة 1958 كان الخوف من الرقابة عاملا ايجابيا على قصصه، فهو (لا يسمح لنفسه بالمكاشفة والتعبير المباشر عن مواقفه الاجتماعية والسياسية..)وفي السياق نفسه يقول القاص محمد خضير(كان الرصيف الاجتماعي الخمسيني يعجُ بالشخصيات الكادحة التي سحقتها طاحونة المدينة/ 101/ تاريخ زقاق.)

(*)

يرى فوزي كريم أن ثورة 14 تموز جعلت أدمون يكتب قصصا مسطحّة، في هذه الحالة  تكون الحرية ليست إدراك الضرورة، وتصبح الرقابة والخوف: دهليزا ينطلق منه الإبداع بالنسبة للقاص أدمون صبري.

(*)

مع ثورة 14 تموز 1958 صارت الكتابة المسطحّة هي السائدة للأسفولم تكن مقتصرة على أدمون صبري.. ولا يمكن للسرد أن يصمد( طويلا أمام تيار الثورة العنيف الذي لم يُتح لقدم أن تتمسك بموقعها القديم، ولا لصوتٍ خاص أن ينفرد بعزف مسموع/ 102/ محمد خضير/ تاريخ زقاق).. نزار عباس في 1958 قصة (مياه جديدة) وفي 1959( السرير رقم 13) عبدالملك نوري يكتب(الجدار الأصم) 1954.وفي 1959 في مجلة (المثقف)  كانت هناك قصة قصيرة(أمعاء المدينة) للقاص يحيى جواد، التي امتدحها علي الشوك لحداثتها واختلافها/ 113/ محمد خضير/ تاريخ زقاق.)

(*)

يبدو أن الأمر لا يقتصر على القاص أدمون صبري، بعد أشهر من قيام الثورة، تنشر مقالة عنوانها(الأدب العراقي والثورة) في جريدةتحاد الشعب) لسان حال الحزب الشيوعي  في 19/5/ 1959  كاتب المقالة   عزيز الحاج، يومها كان من قادة الحزب، مما جاء في مقالته الرصينة :(أدبنا قبل أن يكون متخلفا من حيث الكم، متخلف من حيث النوع، من حيث الجودة الفنية، وصدق التجارب مع انطلاقة الشعب العارمة.. أما ما نشر من الشعر فأن القصائد الفنية الممتازة أقل بقليل، بعضها يمكنك من دون مغالاة- وصفها بأدب(الكلايشوالشعارات واللافتات) أنها تفتقر إلى حرارة العاطفة، وإلى الصور الفنية البارعة) ما يُقال عن الشعر ينطبق على القصص أيضا

(*)

تلاحظ قراءتي أن سرد ثورة 14 تموز 1959 كان هو النص و ثريا النص وكل إبداع السرود والأشعار كانت هوامش نحيلة .. لا عيب في القدرات العظيمة للأدباء لكن هذه القدرات تحتاج مسافة وقت لتنوش الثورة بمنجزاتها وصعوباتها. أما أثناء الثورة: فهي فترة يمكن أن أطلقُ عليها: سقوط النص الشعري والسردي في التبسيط والمباشرة وتحوله إلى لا فتة سياسية. وذلك هو المتوقع في زمن الصخب والعنف والتآمر على الثورة ومحاولات الانقضاض عليها وتشظية الحركة الوطنية العراقية. في هكذا لحظة وطنية متأهبة يصعب على المثقف أن يواصل القراءة الجدية وليس الكتابة الإبداعية.. والسبب أن الكل وبالأخص الأدباء أرعبتهم الحرية المفاجئة، الممنوحة بإفراط، وصدمت وعيهم المقطوع عن جيل الواقعية الكبير قبل الثورة.. هؤلاء أطلق عليهم الناقد عبد الإله أحمد )جيل الضياع ) ويعني (كتّاب القصة الذين استأنفوا إنتاجهم خلال الفجوة الواقعة بعد قيام الجمهورية 1958- 1963/ 109/ محمد خضير/ تاريخ زقاق)..

(*)

بهذا الخصوص يخبرنا فوزي عن أدمون (فمن مجموعتيه (في خضم المصائب) 1959 و(هارب من الظلم) 1960، وقد ضمتا (17) قصة، لم استطع أن أختار إلا قصتين فقط، في حين أهملت(15) قصة لا تستحق هذه التسمية) ويعلل فوزي ذلك الخلل كالتالي (وهذا يعني أن أدمونصبري يفتقد عنصر الرقابة النقدية التي يفترض أن يتحصن  بها كل مبدع. فلقد أملي عليه الخوف والخشية أن يكتب قصصا عن الشائع من النماذج البشرية، ذات الوداعة والسذاجة متأثراً بالتيار الواقعي الانساني( تشيخوف، كوكول…).. ) كما يثني فوزي على السرد الحيادي  الذي يتعامل به القاص مع كائناته النصية ( فهو لا يتدخل في شؤونهاولا يضع ويملي على لسانها وحياتها ما يشاء له موقفه ورأيه ومزاجه ورأيه، بل يكتفي بالمراقبة والرصد. فجاءت هذه القصص دون أن يعرف- أو بدراية لا تمثل رغبته كلية- كما يجب أن تكون عليه القصة الواقعية الإنسانية، من فطنة وطرافة وحرارة مشاعر. ففي مجموعتيه(قافلة الأحياء)1954، و( كاتب واردة) 1955، أستطاع أدمون أن يقدم أحسن ما لديه من قصص..)

(*)

يؤكد فوزي كريم أن نجاح أدمون صبري قصصيا في (ترصد نموذجا بشريا، الشائع الشعبي البسيط الذي تغلب عليه السذاجة وضعف الشخصية والحرمان. ولقد كان رصد هذا النموذج موضوعه الأثير في قصصه الأول حتى الثورة) إذن هذه القصص(14) قصة التي هيسينضدها فوزي، وبشهادته (أجمل ما كتب أدمون طيلة حياته) ومن سمات القاص صبري أنه (يمنح الأحداث والأشياء دلالة رمزية موحية، في اللمسة الاخيرة) بهذه الوسائل النقدية الحريصة على تاريخ القصة القصيرة العراقية ،الشاعر الناقد فوزي كريم : ينقذ القاص العراقي أدمون صبري من منطقة : المنزلة بين المنزلتين ويجعله في مكانه اللائق  ضمن تاريخ القصة القصيرة العراقية

(*)

بوعي نقدي للقصة العراقية ،يفرز فوزي كريم  القصص الضعيفة عن قصص النموذج، من خلال فعل خارج الكتابة القصصية، هذا الفعل الخارجي، ذو أهمية عظمى لدى كل المبدعين ولا يقتصر على أدمون،  أن الضعف الذي يصب القصة (يكشف عن ضعف الوعي الاجتماعي والسياسي، كمصدر للعمل الإبداعي..) وليوضح هذا المنطق النقدي يخبرنا فوزي تطبيقيا عن أدمون (وهو إذ تخلى في الإطار العام عن نماذجه وأبطاله السابقين الأبطال الذين يدرسون لذواتهم- تخلت عنه تلك الطبيعة الحساسية للأسلوب، فاللغة الإنسانية تتوهج حين تقترب من دائرتها وحيزها، أعني (الإنسان)، وأدمون حين كان مشغولا بنماذجه، كان مشغولا بالإنسان، وكان انشغاله صادقاً.) وهذا يعني أن أدمون كان يتماهى في الذات العراقية المهمشة والمستضعفة والمهزوزة، فتأتي الكتابة القصصية منسابة هامسة…( لكن اللغة حين تنحدر من الإنسان إلى الشعار  أو الفكرة، تفقد حرارتها، لأن الشعارأو الفكرة لا تعارض فيهما) لغة الشعار : حنجرة مبحوحة. ولغة الفكرة هي جزء من نظرية (والنظرية رمادية اللون وشجرة الحياة هي الخضراء) كما يقول غوته في مسرحية (فاوست).. إذن لا بد من الاختلاف والتخلص من التماثل المميت من خلال حيوية التعارض الذي يخلق لغة القصص أو الأسلوب، في حين يمنح التعارض الداخلي والخارجي للإنسان تلك الحيوية وتلك الحرارة للأسلوب  وفي تقنية القص.. إذن نستخلص أن أدمون صبري كان يسكنه التعارض في الفترة الملكية لهذا تألقت قصصه القصيرة من ناحيتيّ المبنى والمعنى .

(*)

التمرين النقدي الأول للقصة القصيرة الذي مازال يبهرني، مقالات فوزي كريم الرصينة، في كتابه(من الغربة حتى وعي الغربة) 1972/ سلسلة كتاب الجماهير/ بغداد، والآن كتابه (أدمون صبري.. دراسات مختارات) 1979 وزارة الثقافة والفنون/ بغداد.. وفي مجلة الأقلام/ 1974(أمراض القصة القصيرة العراقية)  جهد نقدي عميق، للقاص أنور الغساني…