22 ديسمبر، 2024 7:49 م

الفوضى المُركبة والمُنظّمة!

الفوضى المُركبة والمُنظّمة!

إنّ محاولات قراءة مفهوم (الفوضى) في علوم السياسة والاجتماع والإدارة وغيرها ستفتح الباب واسعاً على عشرات المفاهيم المتعلّقة بمُفردة (الفوضى)!
فالفوضى لم تعد مجرّد مُفْردة مرتبطة بالاختلال في أداء الوظائف والمهام الموكلة إلى أصحابها وافتقارها إلى النظام، بل أبعادها أكبر وأعمق.
والفوضى في اللغة العربيّة لها العديد من المعاني، وجميعها تعني فقدان التوازن، والاضطراب، والفتنة، والهرج، والمرج، والاختلاط!
ويقال: (قومٌ فوضى: ليس لهم رئيسٌ)!
والفَوْضى في (السياسة) مذهب سياسيّ، يقول بإلغاء الحكومة وبناء العلاقات على أسس فرديّة حُرّة.
والفوضى في عالمنا المعاصر، نظريّة لها أصولها، ومنظّروها، وهي من أخطر النظريات التي يمكن أن تُدمّر الدول والمجتمعات، وهذا يعني أن الفوضى التي نراها في بعض البلدان ليست عبثيّة أو نابعة من الجهل وعدم الدراية والمعرفة، بل هي مدروسة، وهنالك من خطّط لها، ولغايات آنيّة ومستقبليّة.
ما حدث في العراق بعد العام 2003 ليس حدثاً (فوضويّاً بريئاً) أو (محض صدفة)، وقد سبق للكاتب (جوين دايار) أن ذكر في كتابه (الفوضى التي نظّموها): ” غزو أمريكا الفاشل للعراق سوف يغيّر وجه المنطقة برمّتها وسيقود إلى نوع من التغيير الواسع الذي تصحبه، فوضى تعيد تشكيل المشهد الاستراتيجيّ بأكمله في العالم”!
وهذه الفوضى (المنظّمة) نراها اليوم في العراق بصور وأشكال مختلفة، ومنها:
1. الفوضى السياسيّة: وهذه من أكبر عوامل سحق الدولة والمجتمع والإنسان، فلا أحد يعرف مَنْ يَقود العراق، وإلى أين هم ذاهبون بالبلاد وسيادتها، ومواطنيها، وهل القوى المالكة لقرار البلاد عراقيّة، أم أجنبيّة؟
2. الفوضى الأمنيّة: هنالك في العراق أكثر من وزارة أمنيّة، ومع ذلك هنالك فصائل (رسميّة)، ولكنّها حقيقة خارج نطاق سلطة القائد العامّ للقوّات المسلحة، وهي تتنامى بدليل انشطار الحشد الشعبيّ، قبل يومين، إلى كيان جديد وهو (حشد المرجعيّة)!
الفوضى الأمنيّة والجرائم السياسيّة تتصاعد في كلّ ساعة، وآخرها اغتيال واعتقال عشرات الناشطين في بغداد ومدن الجنوب خلال الساعات القليلة الماضية!
ولهذه الأسباب حدّدت (شركة الاستغاثة الدوليّة)، الأربعاء الماضي، ” العراق من بين أخطر خمس أماكن على وجه الأرض لا ينبغي زيارتها في العام 2021″!
3: الفوضى الإعلاميّة: وهي واحدة من عوامل زرع الفتنة بين العراقيّين، وهنالك قنوات فضائيّة وصُحُف مموّلة رسميّاً تبثّ سمومها القاتلة لتخريب التعايش السلميّ بين المواطنين، وكان دورها كبيراً وخطيراً في تآكل وضياع مفهوم الأخوّة الوطنيّة.
4. الفوضى الاقتصاديّة: هذه الفوضى قادت لسحق الصناعة الوطنيّة، وتهميش القطاع الخاصّ.
واليوم وصلت الحكومة إلى مرحلة لا يمكنها فيها دفع رواتب الموظّفين إلا بالاقتراض الداخليّ والخارجيّ، وهذه مؤامرة خطيرة لا يمكن السكوت عليها، أو القبول بها لأنّها ستقود حتماً إلى فوضى مركبة وخطيرة عبر رهن القرار العراقيّ لإرادة البنك الدوليّ، والدول المانحة، أو المُقرضة.
5. فوضى (فهم الدين): حيث استخدم الدين لأغراض سياسيّة في الانتخابات، وعسكرة المجتمع، وآخرها ما وقع قبل أسبوعين، من محاولات رسميّة لتقاسم أملاك الوقفين السنّيّ والشيعيّ، وهي مخالفة شرعيّة وقانونيّة لا يمكن تغافلها لأنّها لا تتّفق مع مفهوم الأوقاف حيث تنصّ القاعدة الفقهيّة على أنّ:( شرط الواقف كنصّ الشارع) وبالتالي لا يمكن لأيّ حاكم أن يتلاعب بالوقف إلا بما فيه مصلحة الأوقاف، أو تنميتها!
6. الفوضى الثقافيّة: وقد لاحظنا أنّها بدأت تدبّ حتّى إلى المناهج الدراسيّة حيث أُقحم فيها بعض المغالطات الهادفة لتسميم أفكار الجيل الجديد بآراء وروايات غير متّفق عليها بين علماء الأمة، وهذه واحدة من المآسي الثقافيّة والفكريّة في العراق!
وهنالك أصناف أخرى من الفوضى، ومنها: الاجتماعيّة والصناعيّة والتجاريّة والمصرفيّة والنقابيّة والخدميّة وغيرها!
تفاعلات هذه الفوضى المركبة والمنظّمة ستلقي بظلالها على عموم العراق، وستكون عبارة عن عاصفة مجنونة تضرب كلّ ما يقف أمامها، ولا تفرّق لحظة جنونها بين الصالح والطالح، والبريء والمتّهم، وستكون آثارها مدمّرة على الجميع، وكلّ ذلك بسبب غياب السلطة القويّة القادرة على ضبط الإيقاع المنظّم لمؤسّسات الدولة، ولهذا يجب تسليم زمام الأمور لحكومة وطنيّة وغير متّهمة بقتل المواطنين، ولا تزرع الفوضى بينهم، أو (تغلّس) على مروّجيها لتقود العراق إلى مرافئ الأمن والأمان.
لننقذ العراق من الفوضى المركبة قبل أن نكون جميعاً في عين العاصفة القاتلة وحينها لا ينفع الندم!