21 ديسمبر، 2024 2:33 م

الفن سلاح ذو حدين بناء وهدم

الفن سلاح ذو حدين بناء وهدم

عند كتابة مسلسل أو إخراجه من الضروري أن نضع نصب أعيننا مسؤولية نقل صورة حضارية تعكس قيم وثقافة المدينة أو البلد وأن نتجاوز الصراعات العشائرية والمشاكل المحلية، وإن كانت جزءًا من الواقع، لا تمثل الوجه الحقيقي الذي نطمح نبرزه للعالم.
إن الأعمال الفنية ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي نافذة يطل منها العالم على ثقافتنا وتاريخنا، تحمل رسالة تتجاوز الحدود في زمن أصبحت فيه الحدود بين الشعوب غير مرئية بفضل الإنترنت والتواصل السريع، أصبح لزامًا علينا أن نرتقي بمحتوانا الفني ليكون سفيرًا يعكس صورة مشرقة وحضارية عن مجتمعاتنا.
للأسف، بعض المسلسلات تركز بشكل مفرط على الصراعات العشائرية والمشكلات الاجتماعية التي قد تكون واقعية في بعض الأحيان، لكنها ليست الصورة التي نريد أن ترسخ في أذهان الأجيال القادمة. هذا التركيز يخلق انطباعًا سلبيًا يمكن أن يؤثر على كيفية فهم الآخرين لثقافتنا.
من هنا، يجب أن نكون أكثر وعيًا في اختيار القصص التي نرويها، وأن نقدم تنوعًا يعكس غنى حضارتنا وتاريخنا المشرق. من خلال ذلك، نؤكد للعالم أننا جزء من هذا الكوكب وأن لنا مساهمات حضارية وقيمًا نعتز بها.
إن دور الكاتب والمخرج ليس مجرد تقديم محتوى، بل هو مسؤولية اجتماعية وثقافية تتطلب وعيًا عميقًا بكيفية تشكيل الصورة الذهنية للمجتمع الذي يتم تمثيله. نحن بحاجة إلى أعمال تعرض التنوع الثقافي، وتحتفي بالتعايش بين أفراد المجتمع بعيدًا عن الصور النمطية.
فإذا استمرينا في التركيز على الجوانب السلبية دون تسليط الضوء على النجاحات والتطورات، فإن ذلك سيكون بمثابة رسالة خاطئة للأجيال القادمة، وكذلك للمشاهدين من مختلف أنحاء العالم.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن ندرك أن المسلسلات والأعمال الفنية ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل هي وسيلة لتشكيل الوعي الجمعي وبناء الهوية الثقافية. عندما نقدم صورة سلبية أو محدودة عن مجتمعاتنا، نساهم في ترسيخ أفكار نمطية ومحدودة عن أنفسنا أمام العالم. هذا التأثير يمتد إلى الأجيال القادمة التي قد تنشأ وهي تحمل في أذهانها تلك الصور، معتقدة أنها تمثل الواقع بشكل كامل.
ومن هذا المنطلق أن نوجه طاقاتنا الإبداعية نحو تقديم قصص تُظهر الجانب الإيجابي والمتقدم من مجتمعاتنا. يمكننا أن نبرز التطور الحضري،والإسهامات الثقافية والفكرية التي لطالما تميزت بها مجتمعاتنا. كما ينبغي أن نحتفي بالقيم الإنسانية المشتركة مثل التسامح، والعدالة، والتعاون، وهي قيم تمثل جوهر حضاراتنا وتاريخنا.
في زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الصورة التي نقدمها عبر الأعمال الفنية تصل إلى جميع أنحاء العالم في ثوانٍ. كل مشهد، وكل حوار، وكل رسالة تحملها هذه الأعمال لها تأثير مباشر في تشكيل تصورات الآخرين عنا. لهذا، يجب أن نكون حذرين في ما نعرضه، وأن ندرك أن الفن أصبح سلاحًا ذو حدين يمكن أن يبني أو يهدم، يمكن أن يعزز الانفتاح والحوار أو يغلق الأبواب ويخلق الحواجز.
ولا يعني ذلك إخفاء المشكلات أو تجاهل التحديات، بل يعني تقديمها بشكل متوازن يعكس الوعي بالنقد البناء والتطلع نحو الحلول. نحن بحاجة إلى مسلسلات تقدم تصورات واقعية، لكن دون السقوط في فخ الإثارة التي تبني على الصراعات السطحية، وتفشل في تقديم صورة شاملة ودقيقة عن الحياة اليومية والطموحات المستقبلية لمجتمعاتنا.
عندما يتمكن صانعو الأعمال الفنية من المزج بين القيم الحضارية العالية وقصص واقعية تعكس حياة الناس وتحدياتهم اليومية، دون الوقوع في تكرار الصور النمطية، عندها فقط نكون قد نجحنا في تقديم صورة مشرقة يمكن أن يفخر بها أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة.
لا يمكننا أن نغفل عن دور الفن في بناء جسور التواصل بين الثقافات. تقديم صورة حضارية للمجتمع يعني تعزيز الحوار الثقافي مع الآخر، وهو ما نحتاجه اليوم في عالم متداخل ومعقد. يجب أن نكون على قدر هذا التحدي، وأن نرتقي بأعمالنا الفنية لتكون منارات تُضيء طريق المستقبل، ليس فقط لمجتمعاتنا، بل للعالم أجمع.
علاوة على ذلك، لا يمكن تجاهل الدور الأساسي الذي يلعبه الإعلام والفن في تشكيل الهوية الوطنية. عندما نعرض الصورة الحضارية لمجتمعنا في المسلسلات والأفلام، نحن لا نخاطب الجمهور المحلي فحسب، بل نخاطب العالم بأسره. تقديم هذه الصورة بشكل إيجابي ومشرق يُعزز من شعور الأفراد بالفخر والانتماء إلى ثقافتهم وتاريخهم، وهو أمر جوهري في بناء أجيال واثقة وقادرة على مواجهة تحديات
المستقبل.  وأن ندرك أن الأعمال الفنية لها قوة كبيرة في تغيير الأنماط الذهنية السائدة عن المجتمعات. فبينما قد تستمر بعض الصور النمطية في الإعلام الغربي عن شعوبنا، يمكننا أن نستخدم الإعلام والفن كوسيلة لمواجهة هذه الصور، وتصحيحها من خلال تقديم سرديات وقصص تعكس حقيقة مجتمعاتنا المتعددة والمتنوعة. نحن نعيش في عالم مترابط، والصور التي نقدمها لأنفسنا ستصبح جزءًا من الرواية العالمية عنا.
وفي هذا السياق، لا يمكننا إغفال أهمية التنوع في الأعمال الفنية. إن تصوير المدينة أو البلد في إطار حضاري يجب أن يعكس التنوع الاجتماعي والثقافي الذي يُميزها. من المهم أن نُظهر التعددية الموجودة في مجتمعاتنا، سواء من حيث الأعراق، أو الأديان، أو الفئات الاجتماعية، بطريقة تعزز من فكرة التعايش والوحدة الوطنية. فالتنوع هو أحد مصادر قوتنا، ويجب أن يكون جزءًا أساسيًا من الرسالة الفنية التي نقدمها للعالم.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نبتعد عن القوالب الجاهزة والسيناريوهات المتكررة التي تتناول الصراعات العشائرية أو المشاكل الاجتماعية السطحية. هذا النوع من السرد يساهم في خلق حالة من الجمود الفكري، ولا يعكس الواقع المعاصر الذي يشهد تطورًا هائلًا في مختلف المجالات. بدلاً من ذلك، يمكن للأعمال الفنية أن تركز على الابتكار، والإبداع، والعلم، والتنمية الاقتصادية، وكل ما يعكس النمو والتقدم الذي يحدث في مجتمعاتنا.
كما أن تصوير المدينة الحديثة التي تتجه نحو المستقبل لا ينبغي أن يقتصر على الشكل المادي فقط، كالمباني الحديثة والبنية التحتية المتطورة، بل يجب أن يمتد إلى تقديم قصص تعكس التغيرات الفكرية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات. نحتاج إلى إبراز الشخصيات التي تعمل من أجل التغيير، سواء في مجالات العلوم، أو الفنون، أو التعليم، وتقديم نماذج واقعية للقدوة التي يمكن للأجيال القادمة أن تتطلع إليها وتستلهم منها.
فإن القوة الحقيقية للفن تكمن في قدرته على التأثير الطويل الأمد. الأعمال التي تُقدم رؤية حضارية تقدم للمشاهدين، سواء كانوا محليين أو عالميين، فرصة للتعرف على مجتمعنا من زوايا مختلفة. وهي تساعد في بناء جسر بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث يتعلم المشاهدون من دروس التاريخ، ويستلهمون من حاضرهم ويطمحون لتحقيق مستقبل أفضل.
عندما نستثمر في تقديم مسلسلات وأفلام تعكس الجانب الحضاري من حياتنا، نكون بذلك نبني صورة ذهنية إيجابية ومستدامة عن مجتمعاتنا، ونرتقي بفننا ليكون أداة للتغيير الإيجابي والبناء، بدلاً من مجرد وسيلة للتسلية العابرة. إننا بذلك نضع حجر الأساس لتشكيل ذاكرة جماعية صحية ومشرقة للأجيال القادمة، ذاكرة تفتخر بماضيها وتتطلع لمستقبلها بتفاؤل واعتزاز.
من المهم أيضًا أن نُدرك أن تقديم صورة حضارية في الأعمال الفنية لا يعني تجاهل القضايا الاجتماعية أو المشاكل التي تواجه المجتمع، بل يعني التعامل معها بوعي وعمق. بمسلسلات والأفلام تقدم نقدًا بناءً وهادفًا، دون تضخيم السلبيات أو تقديمها بصورة مبالغ فيها تؤدي إلى تكريس الصورة النمطية السلبية. الأعمال الفنية الناجحة هي تلك التي تطرح القضايا بذكاء، وتعالجها بطريقة تُحفز على التفكير والتغيير الإيجابي، دون الوقوع في فخ الإثارة الرخيصة أو السطحية.
كما أن التركيز على الجانب الحضاري لا يجب أن يقتصر على المدينة كمساحة فيزيائية، بل يجب أن يتناول القيم والمبادئ التي تعكس حضارة المجتمع. القيم مثل العدالة، والكرامة الإنسانية، والمساواة، والتسامح هي التي تشكل أساس الحضارات العريقة، ويجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من القصة التي نرويها في أعمالنا الفنية. عندما نُظهر هذه القيم في شخصياتنا وأحداثنا، نعزز من قوة الرسالة الفنية، ونُساهم في ترسيخ هذه القيم في وجدان المشاهدين.
من جهة أخرى، ينبغي أن نركز أيضًا على تقديم المرأة والرجل في أدوار تعكس تمكينهم ومشاركتهم الفعالة في بناء المجتمع. إن تصوير المرأة على أنها مجرد شخصية ثانوية أو ضحية للصراعات الاجتماعية يضر بالوعي الجمعي ويفشل في تقديم صورة عادلة للواقع. يجب أن نبرز أدوار النساء القيادية والإبداعية، وأن نُظهر الرجال في أدوار تعكس التنوع والتطور الفكري والاجتماعي، بعيدًا عن القوالب الجامدة التي تكرس الصور النمطية التقليدية.
في الوقت الذي نعيش فيه في عالم يشهد تحديات كبرى، وأن نكون على دراية بأهمية الرسائل التي نرسلها من خلال أعمالنا الفنية. إن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي قد جعلت العالم قرية صغيرة، حيث يمكن لمشهد واحد أو فكرة واحدة أن تنتشر بسرعة وتصل إلى جمهور عالمي في غضون لحظات. ولهذا السبب، يجب أن نكون حذرين في اختيار القصص التي نرويها، وأن نتحلى بالمسؤولية الاجتماعية والفنية لنقدم صورة تعكس واقعنا الحضاري وتاريخنا العريق، مع التركيز على المستقبل والتطلعات التي نسعى لتحقيقها.
يمكن القول إن الفن هو مرآة المجتمع، لكن هذه المرآة يجب أن تعكس الصورة الكاملة والواقعية، لا الصورة المجتزأة والمشوهة. من خلال تقديم صورة حضارية لمجتمعاتنا في الأعمال الفنية، نكون قد ساهمنا في بناء جسر تواصل حضاري مع العالم، وأرسينا أساسًا متينًا للأجيال القادمة لتكون فخورة بتراثها وثقافتها. في نهاية المطاف، يجب أن يكون الهدف الأسمى للفن هو إلهام الناس وتحفيزهم على السعي نحو مستقبل أفضل، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال تقديم أعمال تعكس قيمنا وتطلعاتنا الحضارية بكل أمانة وجمال.