18 ديسمبر، 2024 7:53 م

الفنّ الإسلامي.. ملمحٌ آسر لحضارة عريقة

الفنّ الإسلامي.. ملمحٌ آسر لحضارة عريقة

رغم تناول قضايا الإسلام في شتى مظاهرها وأبعادها السوسيولوجية والدينية والسياسية، في الفترة الحالية في الغرب، فإن موضوع الفنّ في تلك الحضارة يبقى مُدرَجا في الهامش، أو مُتناولا بشكل سطحي، تبعا لأحكام مسبَقة متجذرة. بهذه العبارات يستهلّ جوفاني كوراتولا حديثه عن الفن الإسلامي في مقدمة المؤلَّف العميق والأنيق الذي تولى الإشراف عليه، والذي حاول فيه، رفقة جمع من المتخصّصين في الفنّ الإسلامي، الكتابة عن تجليات التجارب الجمالية الإسلامية، التي تشكّلت على ضفاف المتوسط وغطّت سائر المراحل التاريخية. كوراتولا هو إيطالي متخصص في الفن الإسلامي ومستشار لدى متاحف عالمية، وهو أيضا أستاذٌ في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو وفي جامعة أودينه، سبق أن أنجز جملة من الأعمال في الموضوع من بينها “تركيا.. مسيرة فنية من السلاجقة إلى العثمانيين” (2010)؛ “الفنّ الفارسي” (2008)، كما تولى إعداد كتاب “العراق.. مسيرة فنية من السومريين إلى عصر الخلفاء” (2006)؛ وشارك كذلك في المؤلف الجماعي “من بيزنطة إلى أسطنبول” (2015).
ساهم في إعداد الكتاب الحالي الذي نتولى عرضه جمعٌ من الخبراء في تاريخ الفن الإسلامي، حاولوا من خلال أبحاثهم تغطية فترات متنوعة من التجارب الفنية الإسلامية تناولت مواضيع مثل “من الفن الأموي إلى عالمية الفن العباسي” لجيوفاني كوراتولا، و”الفن في الأندلس وشمال إفريقيا” لكونزالو بوراس غوالي، و”الفنون في إسبانيا والمغرب إبّان عهديْ المرابطين والموحّدين” و”فنون الفترة الفاطمية” بقلم آنّا كونتاديني، و”مؤثرات مسيحية في الفن في سوريا ومصر” لجوفاني كوراتولا، و”الفن الإسلامي الغربي مطلع عصر النهضة الأوروبية” لجوزي ميغيل بويرتا فلكيز، إلى جانب بحثيْن تاريخييْن تناول فيهما معدُّ الكتاب الأعمال الفنية العائدة إلى فترتيْ السلاجقة والمماليك.
يأتي نشرُ الكتاب الحالي في أجواء يكثر فيها الحديث عن التعامل المشين مع آثار العالم العربي ومع الأعمال الفنية العائدة إلى هذا الفضاء، وهي في الواقع أصداء سيئة لما تقترفه جماعات متشددة وعصابات إجرامية، استغلت حالة الاضطراب التي تعصف ببعض بلدان المشرق، لتعبث بثروات فنية، يقابل ذلك ظرفٌ يسود فيه تدنّي التعامل العلمي مع هذه الثروة الفنية التي تزخر بها المنطقة، ذلك ما حاول جوفاني كوراتولا الإشارة إليه في التمهيد لكتابه وما حفّزه لإبراز الجانب الفني في الحضارة الإسلامية وإعطائه مكانته اللائقة. فالفنّ الإسلامي هو فنٌّ يندرج في صُلب الحركة الفنية العالمية، ولا يمكن تناول قضايا الفن الغربي تناولا شاملا ومعمَّقا مع إغفال الضفة الجنوبية للمتوسط التي هي ضفة إسلامية، بما لها من تأثير حاسم في تشكيل رؤانا الفنية وذائقتنا الجمالية، كما يقول جوفاني كوراتولا. فالعلاقة بين الفن الإسلامي، في تطوراته المغاربية، الموحدية والمرابطية والفاطمية والأندلسية، ثم العثمانية، مع الفن البيزنطي والأوروبي عامة، سواء في مجال العمارة أو الفسيفساء أو المنحوتات أو المسكوكات أو التصاوير، هي تطورات عميقة وضاربة في القِدم. كما يتجلى من خلال مبحث “الفن في الأندلس وشمال إفريقيا” لكونزالو بوراس غوالي.
حيث يبرز كونزالو بوراس غوالي أن التغافل عن الفن الإسلامي في الغرب قد ساد على مدى عهود طويلة، لدواع سياسية ودينية واستعلائية أيضا، جراء عقدة المركزية المتجذرة، لكن المقاربة العلمية تقف على نقيض ذلك التمشي. لقد كان لإدوارد سعيد دورٌ بارز في الحثّ على خوض تلك المراجعة، بما أعاد للفن الإسلامي اعتباره وتثمينه. وعلى العموم جاءت حركة التصحيح في الغرب حصيلة انتقادات داخلية للمركزية الغربية، ما جعل المقاربات الفنية تكفّ عن التمادي في إلغاء المنتوج الفني الإسلامي وطمسه، ونقصد على السواء المنتوج المشرقي أو المغربي ممثلا في المنتوج الفني الأندلسي بالغ الرقي، رغم ما تعرّض له هذا المنتوج في حقبة حرب الاسترداد الإسبانية (Reconquista) من إتلاف متعمَّد مسّ التراث الديني خصوصا، في مسعى لطمس كل ما هو إسلامي، وهو ما رافق حملات طرد الموريسكيين في ذلك العهد.
لكن ذلك الطمس الذي تعرّض له الفن الإسلامي في البدء، عقبه ما يشبه تأنيب الضمير أو صحوة الوعي في الغرب، كما يقول سيد حسين نصر، وذلك منذ انعقاد مهرجان العالم الإسلامي بلندن سنة 1976 الذي تناول للمرة الأولى مسألة الفن الإسلامي. باتت العديد من الدول الأوروبية التي طالها الفتح الإسلامي أو خضعت لنفوذه تسعى جاهدة للحفاظ على معالم تلك الفترة وإنجازاتها، بل تفخر بها باعتبارها من مآثر الماضي الزاهر. وما نشهده اليوم من افتتاح تخصصات فنية في كبريات الجامعات الغربية، في جامعة السربون وجامعة روما وجامعة برلين وجامعة لندن، تُعنى بتدريس الفنون الإسلامية في مجال المنمنمات والمخطوطات والآرابيسك، هو ردّ اعتبار وتصحيح في الآن نفسه.
وفي تطرق جوفاني كوراتولا لموضوع “المؤثرات المسيحية في الفن في سوريا ومصر” أبرز أن الفن الإسلامي وإن هلّت بوادر تشكّلِه مع الفترة الأموية، لا يخفى أن تلك المرحلة السياسية الحضارية كانت وريثة حضارات سابقة وأخرى منافسة تعود إلى العهد نفسه. استبطنت تلك الروافد التي أثْرت الجانب الإسلامي الفنَّ الرافديَّ والفنَّ الساساني والفن البيزنطي، فضلا عما اختزنته الجزيرة العربية في عهودها السابقة من تراث فنيّ قديم. ومع رسوخ قدم الدولة الإسلامية مع الفترة الأموية بدأت السلطة السياسية تبحث عن تجليات فنية، وعن لغة جمالية تترجِم من خلالها كونيتها، وهو ما لاح جليا في الإنجازات العمرانية، عبر توظيف جملة من الخبرات الحِرفية للحضارات الأخرى في بناء الجامع الأموي أو في تشييد قبة المسجد الأقصى، وكذلك في إقامة جملة من المعالم المبكرة العائدة لتلك الفترة. كانت الأرضية الأولى التي نشأ فوقها الفن الإسلامي هي أرضية سامية بامتياز، تجلى ذلك من خلال محورية اللغة العربية، وطراز المعالم العمرانية كقبة الصخرة، والمبادرة بضرب العملة مع الخليفة عبدالملك بن مروان. وهو ما صبغ البعد الفني في عهد الدولة الأموية بصبغتين إسلامية وشرقية، لينضاف إلى ذلك بعد غربي مع التجربة الأموية في الأندلس.
وبالإضافة إلى التأثيرات التقنية الجلية للفن المسيحي المشرقي في نظيره الإسلامي حديث المنشأ، تبدو مناسبات تكليف فنانين من بيزنطة بإتمام أشغال للمسلمين معروفة أيضا. فقد سأل الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك (705-715م) الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الثاني (685-695؛ 705-711م) مدّه بعدد من الحرفيين المهرة أثناء شروعه في تشييد جامع المدينة. ويرصد الجغرافي ابن الفقيه الهمذاني في “كتاب البلدان” هذه الاستعانة بالفنانين والحرفيين البيزنطيين في قوله: “وهم أحذق الأمة بالتصاوير، يصوّر مصوّرهم الإنسان حتى لا يغادر منه شيئا، ثم لا يرضى بذلك حتى يصيره شابا، وإن شاء كهلا وإن شاء شيخا، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلا ثم يجعله حلوا، ثم لا يرضى حتى يصيره ضاحكا وباكيا، ثم يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخَجِل وبين المستغرق والمبتسم، والسرور وضحك الهاذي ويركّب صورة في صورة”. ومن جانب آخر لا يمكن التغاضي عن مساهمات الساسانيين، الذين كانت لهم تقاليد عريقة في فنّ المنمنمات ولا سيما في رسم ملامح الوجوه، وقد برعوا أيما براعة في إنجاز المخطوطات المصوَّرة، التي تروي تاريخ ملوك فارس. وماني صاحب الديانة المانوية التي دان بها كثير في بلاد العرب حتى بلغت أرض إفريقية، الذي عاش بين 216 و 276 م في أرض الرافدين، كان أيضا رساما وعلى دراية بفن المنمنمات. وضمن هذه المؤثرات التي تأثّر بها الفن الإسلامي أسهمت منطقتان في شبه جزيرة العرب قبل مجيء الإسلام مساهمةً معتبرة في إيجاد تعبيرات فنية راقية، وهما منطقة جنوب اليمن ومنطقة الأنباط في الشمال. وعلى العموم، سواء اللخميون أو الغساسنة، فقد كانت أعمالهم ذائعة الصيت، خصوصا براعتهم في النحت: فقد كان لخميّاً مثلا من شيّد تماثيل طاق بستان الشهيرة في أطراف خرمنشاه في فارس.
من منظور تأسيسي كان الفن الإسلامي في المرحلة الأموية يبحث عن تشكيل هوية مستوحاة من رؤية دينية للكون، تَلَت ذلك المرحلة العباسية، التي غدا فيها الفنان المسلم ينحو إلى خطاب كوني جلي في إنجازاته. وهو ما جاء بارزا في معالم سامراء التي بدت خير تعبير عن اللغة الفنية العالمية للعباسيين، فقد أنشئت سامراء على بعد مائة كلم من بغداد، على الضفة الشرقية لنهر دجلة. إذ الجلي أن الفنون الإسلامية (فنّ الخط، المعمار، المنمنمات، فن التزويق، الخزف…) عادة ما اجتمع فيها تنائي الفضاءات العائدة إليها ووحدة الخاصيات الجامعة بينها. وهو ما يعود في جوهره إلى نواة عقدية تتلخص في علوية التمثل وتجريد الصورة. ولا شك أن رحابة الفضاء الإسلامي قد خلقت ثراء فنيا تنوعَ بتنوعِ الثقافات، ما أضفى تعددا في المفاهيم والأشكال والمواد.
ضمن هذا الإطار أتى بحث مُعدّ الكتاب جوفاني كوراتولا لمتابعة البعد التأصيلي للفن الإسلامي. إذ يندرج سعي الأمويين لإقامة معْلم ديني بارز في بيت المقدس بحثاً عن تدشين فضاء روحي توحيديّ في منطقة تزخر بتراث ديني عريق، روعي فيه الإرث السابق. وبإقامة الأمويين دولتهم بالشام، لم يحصل تهوين من إرث المنطقة الفني وإنما جرت إعادة توظيفه ضمن معايير توحيدية إسلامية خالصة. كما جاءت المعالم المعمارية النائية أو الموغلة في الصحراء، التي أنشأها الأمويون، ليس كما يذهب بعض المحللين ناشئة عن حنين الفاتحين الأوائل للعيش خارج المدن لطباعهم البدوية (ص: 188)، بل هي في الغالب حمامات صحية أو قلاع حماية أو مراكز استطلاع متقدمة، أُنشئت لأغراض محدّدة وليست كما توصف “قصور في الصحراء”، وذلك شأن “قصير عمرة” في البادية الأردنية (712-715 في عهد الوليد) و”خربة المفجر” في أريحا (الربع الثاني من القرن الثامن الميلادي)، فهي محطات استشفائية وإن بدت معزولة اليوم. وقد تجلى في هذه المعالم الاستيعاب المبكّر لتقنيات الحضارات المجاورة الفنية، على غرار توشيح الأرضيات بالفسيفساء، وتزويق الجدران بالرسوم، وهو ما أبرز الأثري ميكيله بيشيريللو تفاصيله.
يُعدّ المعْلَم العمراني الأهم في بلاد المغرب إبان عهد الفتوحات المبكرة جامع القيروان، الذي تم تأسيسه على يد الفاتح عقبة بن نافع سنة 670 والذي أعيد بناؤه من قِبل زيادة الله الأغلبي سنة 836 على شكل مستطيل. في البحث المعنون بـ”الفن في الأندلس وشمال إفريقيا” لكونزالو بوراس غوالي، يحاول الكاتب الوقوف على أهم عناصر الفن الإسلامي في تونس من خلال تناول المأثرة الفنية للمسجد الجامع، الذي نستشف فيه عناصر أموية فضلا عن أخرى محلية، على غرار الطراز المربّع الذي شُيّدت به الصومعة ومواد البناء التي يغلب عليها الصخر المربّع. فالصحن الداخلي للجامع على غرار حرف (T) اللاتيني وهو ما يماثل مخطط المسجد الأقصى (780) في فلسطين. حيث تربط وحدة عمرانية مشرق البلاد العربية بمغربها وإن تناءت المسافات. هذا وقد شكّل جامع القيروان مثالاً للاحتذاء مع جوامع أخرى في تونس، كجامع سوسة (850)، وجامع الزيتونة المعمور بتونس (856-863)، وجامع صفاقس (894)، حتى وإن طرأت على هذه الجوامع تحويرات في فترات لاحقة.
في مبحث “الفن الإسلامي الغربي مطلع عصر النهضة الأوروبية” الذي يتطرق إلى فلسفة الفن الإسلامي يُبرز جوزي ميغيل بويرتا فلكيز أن هذا الفن ذو حمولة روحانية، مشبَعٌ بعُلوية الألوهية ووحدانيتها. فهو فنّ مسكون بترنسندنتالية وهو أسمى من يكون فنّا دينيا بالمعنى الضيق، مقصده تلبية حاجات شعائرية لا غير، كشأن الفن الديني المسيحي. حيث يتجلى ذلك التعالي في الفن الإسلامي في التحول من الظلمة إلى النور، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن الظاهر إلى الباطن. وبالتالي يمكن القول إن الفن الإسلامي يستمد مرجعيته من رؤية توحيدية خالصة تحاكي الجمال الإلهي. إذ ليس المراد بالفن الإسلامي الفن المتصل بالجانب العبادي والشعائري تحديدا؛ ولكن هو مجمل الإنتاجات الإبداعية الناشئة في ظل الحضارة الإسلامية. وهو يلوح جليا في تمحور الإبداعات الفنية الإسلامية في معالم دينية ومدنية على حدّ سواء: مساجد، مراقد، زوايا، تكايا، مدارس، قصور، أسواق، وحمامات وغيرها.
ضمن هذا الإطار الشامل يجري تدريس مبحث الفن الإسلامي في الجامعات الغربية في الراهن، بوصفه تعبيرا عن حضارة وليس فنا دينيا حصريا. فالمسلم يتوسط عبر أجواء روحية أداء عبادته أو استحضار خشوعه: ترتيل القرآن، جمال الخط، طهر المكان وبساطته، تناسق الشعائر أكان في الطواف أو في الصلاة، وغيرها من السبل، وهي عناصر تلتقي في مجملها عند أفق روحاني يسعى لمعانقة الفطري والطبيعي. والبيّن في الفنّ الإسلامي اتّسامه بسمتين عميقتين: جمالية روحية شفافة يعيها الربانيون وجمالية عينية متاحة لسائر الخلق.
الكتاب: الأطوار الكبرى للفنّ الإسلامي.
إعداد: جوفاني كوراتولا.
الناشر: جاكا بووك (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2018.
عدد الصفحات: 247ص.