يبدو ان الفسلجة الفيزيائية والكيمياوية في تركيبة جسم الانسان باتت تعيش الحنين الى الماضي اكثر من عهد العصرنة الحديثة… فمع توفر وتطور كل وسائل العصر من سيارات وطائرات وحاسبات مرتبطة بالأنترنيت ومصاعد وبوارج وناطحات سحاب. الا اننا نجد ان الناس اليوم وعلى اختلاف لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وبلدانهم يميلون الى الزمن الماضي الزمن البسيط من بناء منزل متواضع بمواد اولية غير مصنعة اساسياتها من الطبيعة ويسمونه بالزمن الجميل ويتذكرون عصر الصناعة والزراعة البدائية ولسان حالهم يقول لقد مللنا زمن العصرنة بتكنولوجياتها وضجيجها وضوضائها ونريد ان نعيش ايام مبسطة وجميلة لا نشعر فيها ان الآلة الصناعية اصبحت شريكنا الثاني في الكرة الأرضية واصبحت البشرية تعيش عصر السرعة والقرارات السريعة بدون تفكير مسبق بسبب جاهزية كل شي يدور في دماغ الانسان…
ان الحنين الى الماضي اليوم اشبه باستراحة فكرية شاملة يستطيع الانسان من خلالها اعادة كل متطلبات حياته العصرية الحديثة.. بالإضافة الى انها اليوم لا تعتبر نوع من التخلف الفكري كما كان سائداً لدى بعض الاوساط في نهايات القرن العشرين والذي يعتبر ان التطور التكنلوجي لا يمكن الاستغناء عنه اليوم بسبب الصناعات العملاقة والصغيرة والتي دخلت في ابسط مطلب من متطلبات حياة الانسان اليوم….وان الانسان في العصر الحديث يختلف من الناحية البدنية الفكرية والبنية عن الانسان في العصر الماضي…ولكن الحقيقة اثبتت غير ذلك فالشوق والحنين يراود الانسان الى العودة الى الهدوء بعيدا عن التلوث البيئي والعصرنة الصاخبة وهو بمثابة اجازة للعقل واستراحة للروح لتعيد برمجة نفسها من جديد بعد ان انهكها واتعبها كثرة المتابعة والمشاهدة في مواقع التواصل الاجتماعي والمعارض العلمية الحديثة.. فاصبح الزاما علينا ان نعيد ذاكرتنا الى ذلك الصفاء الفكري والهدوء التام من خلال ذكريات الماضي بكل مفرداته …….
من هنا انطلقت صياغة فكرة كتابي الجديد عن الفنان احمد عزيز الجبوري الذي استطاع من خلال اداءه وتأليفه المتمكن لابيات العتابة والزهيري والسويحلي ان يوثق جزء من التراث الريفي والبدوي في هذا المجال..
وهنا لابد لي ان اتحدث عن ما نعيشه في الواقع الريفي العربي بشكل عام ولابد لي من ذكر اشخاص اهتموا بهذا الواقع في دولهم واخص بالذكر الدكتورة نعمات الطراونة من الاردن الباحثة والمؤرخة لمياء شريف من الجزائر وغيرهم الكثيرون في ارجاء الوطن العربي..
اما في الواقع الريفي العراقي وبالتحديد محافظة نينوى ومدنها وقراها ولما تتميز به من تنوع اقليمي وعرقي يفوق الوصف فالماضي القريب كانت الناس تعيش حياة البداءة وخاصة في الارياف حيث انعدام تام للخدمات من طاقة كهربائية وشوارع معبدة ولاوجود للآليات المتطورة في حينها فتجد الفلاح ورغم ان الدولة تعتبره الركيزة الاولى في الاقتصاد الا ان انعدام الدعم الحكومي في حينها مع اصرار هذا الفلاح لتحقيق طموحه واستغلال الارض لزراعتها وبطرق يدوية بسيطة الا اننا نلاحظ ان العراق في حينها كان مصدر للحنطة والمواد الغذائية الاخرى… عكس ما موجود حاليا…
كل هذه المعطيات وَلدت جمهور واسع اصبح حنينه لماضيه اقوى من رؤيته للمستقبل او التفكير في الحاضر واصبح الكتاب والمؤلفون يبحثون عن قيمة ومادة جديدة لكتابة مقالاتهم.. لانها تجد آذان صاغية وجمهور قراءة كبير.. فبدأت تتولد طاقات ابداعية مميزة في هذا المجال والاهم من كل هذا ان اغلب الاكاديميين والنخب المثقفة اصبحت هي من يدير هذا الواقع فتجد الاستاذ الجامعي والطبيب والمهندس وكل حملة الشهادات العلمية الاخرى يتابعون وبشغف كل مقالة تنشر عن التراث الريفي..
وفي هذا المجال برز الدكتور إبراهيم العلاف والاستاذ نايف عبوش والاستاذ المرحوم ابو يعرب والاستاذ جاسم شلال وغيرهم من المؤرخين والمؤلفين لهذا النمط من التراث…. وكذلك قسم من شعراء البادية الذين اجادوا صياغة الابيات الشعرية وفق اللهجة البدوية الموجودة في منطقة الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق….
وهنا لابد لنا ان نشير ايضاً بالدور البارز والمميز لرجال الاعلام الذين كانت لهم بصمة تاريخية في هذا المجال من خلال برامجهم الريفية المميزة منهم الاعلامي الكبير إبراهيم مطلك الفرحان ابومعمر الذي مازال متنقلا بين القنوات الفضائية لمواصلة برنامجه البدوي الهادف التي مازال ينادي من خلاله على الحفاظ بالعادات والتقاليد العربية الاصيلة.. والذي انطلق في هذا المجال التراثي المهم منذ خمسين سنة تقريباً بين الاذاعة والتلفزيون مع اختلاف في مسمى البرنامج فقط ولديه جمهور واسع في العراق والجزيرة العربية ودول الخليج العربي…
وكذلك الاعلامي القدير فهمي الزرزور الذي اثبت بصمته التاريخية في تقديم برامج تتكلم عن مفهوم التراث الريفي في العراق وتأثيره ببلاغته وابداعه في ايجاد صيغة الكلام مع ضيف برامجه وكذلك تملكه لموهبة يستطيع من خلالها تنظيم ابداعاته الشعرية وبطلاقة وفي كل مجالات الشعر وهناك الكثير من الاعلاميين المهتمين بهذا المجال…