لاتتساقط الافكار على الرؤوس من سماوات مجهولة . انها تأتي من مصادر بثها وقد صيغت بأتقان يمكّنها من الرسوخ في حاضناتها . هذه المصادر تتمثل بالمؤسسات الكبيرة المتبنية لتلك الافكار بصنفيها السماوي والوضعي .
لقد جاء الانبياء والمفكرون الكبار بحلول عظيمة للمشاكل الانسانية التي كانت سائدة في الارض منذ العصر الطبيعي الذي سبق عصراقامة الدولة وتأسيس المجتمع الاول .
وطرحوا مباديء وقيم انسانية شاملة وممتدة في الزمان ، تحفظ للافراد والمجتمعات وجودها وتصون كرامتها وتمنح ادميتها معناها الحقيقي ، ونادوا بتشييد صرح العدالة الاجتماعية الذي يجعل من الحياة ملكا للجميع .
لكن مأسسة النتاج الفكري من قبل الطبقات التي ادعت حمله وتبنيه ، ساهم في تحويلها من نفع كبير الى بلاء مدمر دفعت البشرية ولاتزال تدفع بسببه ، وعلى امتداد التاريخ ، أثمانا باهضة جدا لعل اغلاها وأهمها بالدرجة الاولى هي أرواح الناس .
لقد تنبهت اوربا بعد كوارث العصور الوسطى الى خطر المؤسسات السياسية واللاهوتية ودورها في عرقلة تحديث الفكر واصرارها على التشبث بفلسفة التجهيل والاستحواذ على العقل الانساني وفرض الهيمنة الاكليروسية على كل نواحي الحياة الاجتماعية .
فبدأ فلاسفتها ومثقفوها وأدباؤها وفنانوها مراحل صراع متتالية استغرقت اربعة قرون انتهت بانهيار عالم قديم وتشييد عالم جديد كانت حرية الفكر من بين اهم ملامحه الراقية .وكان للاصرار والمثابرة والرغبة الصادقة في نيل الخلاص والانعتاق من عبودية تلك المؤسسات دور كبير في التحرر التام والنهائي من سيطرة تلك المؤسسات رغم الان الاخيرة قاتلت بضراوة حفاظا على وجودها واستمرارية بقاءها .
أن اكبر مشاكل مجتمعات المنطقة الحالية تتمثل بالاستغلال التعسفي للفكر الدنيوي والديني من قبل تلك المؤسسات سواء في الماضي أم الحاضر واعادة صياغته بمايخدم اهدافها الخاصة بدون الاكتراث بالخراب الذي احدثته في الفكر نفسه وحرفه عن غاياته التي طرح من اجلها ، او في العقل الانساني بطابعيه الفردي والجماعي .
ولذلك تعرقلت مسيرة التطور الحضاري فيها منذ عقود طويلة من الزمن بعد ان كانت قد لاحت بوادرها في أعقاب الحرب العالمية الاولى ،واصبحت المسافة الحضارية بينها وبين بقية المجتمعات شاسعة جدا .
ان الافكار بصورتها النظرية النقية كفيلة بخلق الحياة المريحة التي يحلم بها الانسان حيث حفلت بكل المفاهيم الخالدة كالحق والعدل والمحبة والمساواة والحرية ..الى اخره ، لكن المؤسسات المستفيدة منها هي التي عمدت الى تشويه صورها الجميلة واكسائها ملامح القبح والرداءة .