23 ديسمبر، 2024 4:22 ص

الفكر المُختلف ونقد الفعل المُنحرف

الفكر المُختلف ونقد الفعل المُنحرف

في الوقت الذي كنا فيه نعيش ونحيا تحت راية ورؤية واحدة، وايديلوجيا واحدة، وحزب واحد، وقائد واحد، وتوجه واحد، تعرض الانسان العراقي بجميع اختلافاته وتوجهاته الى التهميش والاقصاء والعنف، ممن لم يدين بدين الرئيس ولم يتحزب بحزبه ويؤمن بفكره وعقيدته، من قبل أجهزته الامنية، وحراس عقيدته، وتعرض المختلف والرافض لهذا المنطق وتلك السياسة لاشد أنواع العذاب والرفض والابعاد، داخل الوطن وخارجه، ومطاردة الانسان العراقي ونفيه ومحاربته من قبل رجال وحراس الفكر الواحد المتفرد والمستبد بكل شيء، وتأسست كل أوضاع البلد، حركاته وسكناته، وفق تلك الايدلوجيا وذلك الخطاب المتحيز، ومن جراء تلك السياسة وهذا الفكر لعنّا ونقدنا ذلك الواقع ورفضنا ذلك التفكير والمنطق الاحادي التوجه، وقدم الكُتاب والمفكرين والدارسين، رؤى وأفكار تذم ذلك الفكر والتوجه، وأوضحت خطورته وسلبياته على الشعوب والمجتمعات، وبيان اهمية خطاب وفكر وثقافة التعددية والتنوع والاختلاف الاجتماعي والسياسي والثقافي، وفلسف وبرر ودافع هؤلاء عن الموضوع، بوجهات نظر فكرية وفلسفية ودينية وكل ما يدعم ويؤيد فكرهم وفكرتهم هذه، وأعجب الكثير منا بتلك الدعوات والكتابات والافكار، وأخذنا نروج وندعو لها، كون الشعوب المتقدمة حضارياً ومدنياً وعلمياً واجتماعياً وسياسياً، هي من تتبع تلك الافكار الجديدة، وتطبق مبادىء الديموقراطية وحقوق الانسان ونبذ العنف والتطرف والكراهية، والايمان بقيمة الانسان وعقله والاختلاف والتعددية في كل شيء، أذن علينا الاقتداء والالتحاق بركب من يتبع تلك الافكار، ليتحقق لنا ما نريد ونطمح اليه، وبصورة سريعة وبفوضوية عالية تم لنا ما أردناه وما تمنيناه، من تعددية واختلاف وتنوع ، والانفتاح الكبير في عدد الاحزاب والقنوات الفضائية والصحف والمجلات، بمختلف فئات وتوجهات وعقائد الناس وأنتمائهم في العراق، عسى أن نعوض ونصلح ما فقدناه في زمن الفكر التفردي والبعد الواحد، فكان لنا ما نريد بصورة شكلية فقط، وأن نأخذ من الافكار والدعوات شكلها ومظهرها فقط، دون أن تتغلغل المبادىء والاصول الفكرية والفلسفية والانسانية تلك في الفرد والمجتمع العراقي المتجه والمتحول نحو الافكار الديموقراطية والتعددية والاختلاف، لأنه لم يحسن أستخدامها والسلوك والتصرف وفق ما مخطط وموضوع لها، وعدم الاخذ بالاعتبار زمكانية الافكار والفلسفات وتاريخيتها التي ظهرت وقتئذٍ، هذا بالاضافة الى اختلاف طبيعة الشعوب والمجتمعات البشرية، فما ينطبق في مكان قد لا ينجح في مكان آخر، وما يظهر بزمان قد لا يليق بزمان آخر، فمثلما نعتقد بأن لكل زمان ومكان وفكر خصوصيته وظروفه، فكذلك لكل جماعة ومجتمع خصوصيته وظروفه وطبيعته الاجتماعية والحياتية والبيئية التي تحيط به وتحركه، وهذا ما يؤكد عليه المنطق والعلم وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ولكن بأعتقادي ان الامور سواء في الواقع العربي عامة أو في الواقع العراقي خاصة، ستؤول الى المقلوب والقهقرى، ونعود من جديد لنطرق باب التوجه الاحادي والحزب الواحد والفكر الواحد، ونلعن الاختلاف والتعددية مثلما لعنا التفرد والايدلوجيا والقائد الواحد، لأن واقع العراق الاجتماعي والسياسي لا يشبه واقع وحال الشعوب الاخرى، وتجربة العراق ما بعد 2003، أخفقت تماماً وقدمت نتائج وواقع غير الذي كنا نتمناه ونطمح اليه، ولا يمت بصلة الى واقع وحال الدول والشعوب الديموقراطية، التي تنعم وتؤمن بمنطق التعددية والاختلاف، من سلام وتسامح وأحترام الآخر والاعتراف بحقوق الانسان والعدل والمساواة والتعامل وفق القانون والنظم الدستورية الانسانية العالمية، لأننا أخذنا من تلك الافكار والفلسفات ظاهرها وشكلها فقط، دون التغلغل في أعماق تلك الافكار والتعاطي مع جوهرها وجواهرها الثمينة التي تركتها على شعوبها، وبفضلها تحولت تلك الشعوب والمجتمعات من شعوب همجية ومتعصبة ومستعبدة، الى شعوب متقدمة ومتطورة وحرة في كافة المجالات والاصعدة.
لقد أنتجت الافكار الجديدة التي أطلت على مجتمعاتنا انساناً ومجتمعاً ذئباً، يأكل بعضه بعضاً، تحت ذرائع ومبررات مختلفة، من قبيل حرية الرأي والتعبير والفعل والمعتقد، متناسين ضوابط وقواعد السلوك البشري المتزن، والقوانين التي تحاسب المتجاوز على حقوق الناس والقوانين، انني لا ألقي باللائمة على تلك الافكار ومؤسسيها والداعين لها، وانما على الذي يسيء تطبيقها، ويأخذ منها ما يتوافق ومصلحته الشخصية ويترك ما يتنافي مع ذلك، فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر. فالعتب كل العتب على تلك الطبيعة البشرية الشريرة التي تتبع ما تشتهيه وتعمل على تحقيق مصلحتها ونفعها بصورة شرهة ومقيتة دون الاهتمام بالذوات الأخرى التي تشاركها الوجود والحياة، متناسية حقوق الآخرين ومهدرة ومهملة لمصالحهم المشتركة وللشراكة الثمينة في بناء هذا العالم.
فعلاً لقد جعلت العولمة والمعلوماتية العالم قرية صغيرة، ومحاولة لخلق شراكة مجتمعية بين البشر، واطلاع الشعوب على تجارب وعلوم وأفكار بعضها البعض، لردم الهوة وتقليص الفجوة بين الناس وتحقيق التقارب والاتصال والتواصل، ولكن رغم ذلك فأن الشيء الذي لم ولن يتحقق هو خصوصية تلك الشعوب والمجتمعات وثقافاتها وواقعها المختلف والمتباين في كل شيء، فلكل فرد ومجتمع خصوصيته وتربته ومحيطه الذي ينشأ فيه، وما ينجح في مجتمع قد لا ينجح في مجتمع آخر، وما نتمناه ونأمله ونطمح اليه قد لا يتحقق بسهولة، لأن الظروف والمجتمع هي من تخلق الانسان وتوجهه وتصنع شخصيته وأفكاره، فالانسان ليس ريبوتاً ولا آلة تستطيع أن تسيره كيفما تريد، وتؤطره وفق الرؤية والفكر الذي تريد، فهو كائن معقد صعب التوجيه، ومختلف الفكر ومتعدد الارادات، كما أن طبيعة المجتمعات البشرية تختلف عن طبيعة الكائنات الاخرى، وتختلف الطبيعة البشرية، بتقلباتها وأختلافها وصراعها عن غيرها من المخلوقات، فلا نستطيع أن نضبط حركة وفعل جماعة ومجتمع بشري ما وفق ما نريد وما نخطط له وما نسخر لذلك، لاختلاف الطبيعة البشرية وعدم قابيلة ضبط تلك المسيرة والتوجه، ولتلك العلة خلق الله الانسان وتلك المجتمعات البشرية وبهذه الصورة المعقدة، ولذلك من الصعب أن نحقق ما نحلم به ونطمح اليه بسهولة، لأن محاولة رصد وحصر وتوجيه الطبيعة البشرية وفق نمط فكري وحياتي وثقافي واحد أمر عسير لن يتحقق مهما بلغت درجة السيطرة والقوة والنفوذ، الا اذا قبل شخص ما أو شعب ما أن يكون عبداً ذليلاً مقهوراً تحت سطوة الجلاد وأقدام الطغاة والجبابرة.
وهناك فارق كبير بين مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الأخرى، ففي الوقت الذي تحرر فيه الانسان الغربي من عبوديته وعيوبه، ليبدأ خطواته من جديد وفق فكر مستنير يعشق الحرية والانسانية والقانون والنظام، فشلنا نحن في تطبيق ذلك، لأن طبيعتنا البشرية لم تطلق همجيتها وتعصبها وأنانيتها بعد، وهذا هو أخشى ما أخشاه على مسيرة ومسار واقعنا البشري ومستقبل وجودنا في العراق والعالم العربي والاسلامي. وأنني أخشى أن يضيعنا الاختلاف والتعدد في الرؤى والافكار والتوجهات مثلما ضيعنا أصحاب الفكر والحزب والقائد الواحد، لنعود مرة أخرى نصفق للاموات لاحيائهم، وندفن الاحياء واماتتهم من جراء ما يفعلون، وتلك هي المهزلة.