22 ديسمبر، 2024 8:47 م

الفكر الصدري/ مفهوم العبادة ..

الفكر الصدري/ مفهوم العبادة ..

يبدو ان “العبادة” قد سببت “اختلاف” البشر، بدلا من ان توحده‍م نحو الهدف الحقيقي. فقد حصل الاختلاف بين قوم النبي موسى بسبب ذلك.
“وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ”[1]
▪️ويمكن القول ان البشرية غالبا تميل الى الماديات في عبادتها. وتفضل ان يكون المعبود محسوسا وملومسا.
وهذا الميل المادي، قد سبب في تعثرها عن الوصول الى هدفها الاعلى. اي الانفتاح على عالم الغيب والمعنويات. ولا يمكن لهذا النوع من البشر ان يرتقي معنويا. بل هذا الاتجاه الديني الشكلي قد يربطه بالدنيا، ولا يرتقي به الى الاعلى.
▪️ ويفترض بعد هذه المقدمة، ان نتوقع اتجاها اخر للدين. او معنى جديدا للعبادة.
فما هو ذلك الفهم الجديد؟
انه التعبد الذهني والفكري، فضلا عن التعبد الشكلي. هذا النوع من التواصل مع الاعلى، اهتم به الصدر اهتماما بالغاا، لانه روح العبادة. ولانه الجانب المخفي منها، لكونه بين العبد وربه حصرا.
وللتوضيح: مثلا، الصوم الفقهي هو الامتناع عن الاكل والشرب والجنس لمدة محددة. بينما الصوم الاضافي (المعنوي) الذي اتى به الصدر في كتاب “فقه الاخلاق” هو صوم الذهن عن المفطرات المعنوية. فكتب ما مضمونه: ان الصوم المعنوي هو “ترك ما سواه”. اي ان الذهن يصوم عن اي لغو، او غفلة تماما، ويكثف الصائم معنويا التفكير في الخالق واياته. او يتمحور ذهنه حول المعشوق، وهذا الصوم لا شكل له، ولا رياء فيه. بل هو نشاط ذهني، خالص لله، اكيدا.
⚫ وهذا الكلام الصدري يفتح الباب واسعا في فهم معنى العبادة. اي عبادة العقل او الذهن او الفكر، فضلا عن عبادة الجسد.
ويمكن للقارئ اللبيب الان، ان يتصور “الثورة الصدرية” في موضوع العبادة. فالصدر[1] فتح فتحا جديدا في “مفهوم العبادة” وانجز “نقلة” في العمق. كيف؟
يمكن ان نوضح هذه القضية كالتالي:
⚫ هنالك مستويان للعبادة هما:
المستوى الاول: العبادة بالحركات الجسدية والعبارات اللفظية. ويتكفل بتفاصيلها “الفقه” في الاسلام.
المستوى الثاني: العبادة المعنوية، نفسيا وذهنيا. ويتكفل بتفاصيلها “الاخلاق” في الاسلام. الا ان هذا المفهوم كان غائبا. واعتقد ان ظهور هذا الفهم العميق للعبادة، قد تاسس وجوده في ارض الواقع بعد اصدار “الصدر” لكتاب “فقه الاخلاق”. وقد اصبح الكتاب متاحا في التسعينات.
ويحتاج التوضيح الى عدد من الاقتباسات، من كتاب فقه الأخلاق[2]، للسيد الشهيد محمد الصدر. كالتالي:
▪️إنَّ الصوم يوجب تطهير القلب وصفاء النفس على عدة مستويات: منها: أنَّ ثقل المعدة بالطعام والشراب، موجبٌ للثقل في السير المعنويّ في طريق الإيمان واليقين. وكلما كانت المعدة أخفَّ كانت الروح أكثر شفافيةً والنفس أسرع طيراناً إلى عالم النور.
▪️يُراد من القتل أخلاقياً قتل الشهوات في النفس وقتل حبِّ الدنيا في القلب، وهذا هو الموت المعنويُّ الممدوح. وقد ورد:
(موتوا قبل أن تموتوا) ومن هنا كان التوجيه والتدريب الحقيقيُّ نحو التكامل سبباً للقتل لامحالة، فإذا ربيت شخصاً فإنَّ تربيته تؤدي إلىٰ قتله وموته المعنويِّ لا محالة، وإلا فإنَّ تربيتك فاشلةٌ أو دنيويَّةٌ لا أكثر ولا أقل.
▪️العمل الظاهري يتحدد ويتأقلم بإقليم المحتوى الداخلي للفرد ، كالحرارة تزيد عند زيادة النار وتضعف عند قلتها . فكذلك الصلاة مثلاً ، قد تصدر بإخلاص كبير وقد تصدر بإخلاص قليل ، كما قد تصدر بخشوع كثير وقد توجد بخشوع قليل . وهكذا .
إذن ، فالجزء الأهم والأوكد من العمل ، سواء على مستوى الطاعات أم مستوى المعاصي ، إنما هو العمل في المحتوى الداخلي للإنسان . والعمل الظاهري ، مهما رأيناه لطيفًا ومحترمًا ، فإنما يتحدد بالباطن .
ومن هنا ورد : (إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم) . و ورد : (نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله) ، و ورد قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
▪️▪️وبناءا على هذا الاتجاه الصدري يمكن ان يتوسع مفهوم العبادة،. فهل العبادة هي الصوم والصلاة والحج المتعارف عليه عند البشر. ام هنالك مفهوم اوسع.
للحديث بقية.
الهوامش:
[1] الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر، وكانت سيرته اخلاقية. ذات اتجاه عرفاني.
[2] قال القائد مقتدى الصدر :
كتاب فقه الاخلاق .ذلك الكتاب العظيم الذي جمع علم الاوليِن والاخريِن ..ذلك الكتاب الذي يجمع جواهر الاخلاق وجواهر الفقه وجواهر الكلام وجواهر الادب.