22 نوفمبر، 2024 11:41 م
Search
Close this search box.

الفكر الشعري المتأمل

الفكر الشعري المتأمل

1
لا يدعي الناقد المتأمل إن مقارباته النقدية تكشف عن خطاب ثابت يتبناه، أو يحاول بناءه بقدر ما تشكل قراءته النقدية الجمالية المجردة مغامرة فكرية تبقى أبوابها مفتوحة على نهايات غير مكتملة حيث المعاني اللانهائية للقصيدة، أو أي نص أدبي، ليست معطى أو انعكاساً مباشراً أو استحواذاً معرفياً إنما هي دائماً في طور التكوين والتجدد، وهذه ميزة القصيدة المتجددة التي ندخل معها أفق الغواية والشاعر المغاير الذي يجز بشعره المثقل بالجمال عشب الفجاجة اللغوية والسكون المعرفي .
لا يحقق الزمان في دورته أحلام الكاتب، في كل الفنون الادبية، بل يكشف عن تحققها المستحيل، يخلق الزمن الحلم ليبدده، هكذا تقول التجارب في أكثر من مكان إذ الزمن لا غاية له والحلم حقيقته الوحيدة وهذا ما يجعل من الكتابة عنصراً أساسياً في رؤية الكاتب أو في بحثه عن الجوهر المفقود في معنى الكتابة أو كتابة المعنى، فلا تنمو الكتابة إلا في المعنى ولا يعلو المعنى إلا في الكتابة، وقد دفعت هذه الرؤية البعض من الشعراء إلى عالم المطلق إذ لا مكان ولا زمان للنص إلا في ذهن الشاعر وإذا كان هذا البعض قد بدأ بالاقتراب من المطلق، بالمعنى المعرفي، في مرحلة الكتابة الشعرية الجديدة أو الكتابة المغايرة، بكل تشعباتها، وأحتفظ فيها بتعيين المكان والزمان فإنه قد انفلت في بعض نصوصه اللاحقة من أسر الكتابة التقليدية المتكلسة ليتوه في مملكة المعنى الجمالي المجرد حيث لا يحضر النص إلا بنفيه ويتحول المعنى، في النص، إلى خلق ذهني أو إلى عالم مغاير يبتكر الجمال . تصبح الكتابة الشعرية الجديدة متكأ الشاعر الباحث عن المعنى في رحلته الشاقة مع الكلمات، في بعض الأحيان يغيب الشاعر ويظل النص وتبتعد الكتابة لتسيطر مدن الخيال أو حرائق المخيلة وفق ترتيب شعري هندسي، فتحضر مدن الشاعر وتفاصيلها الشعرية، تحضر المعاني جميعها وهكذا يستمر مفهوم الرحلة الشعرية والبحث عن الشك في اليقين وبالعكس . كل هذه الأشياء تتم في المخيلة الخصبة بل في معادلات الفكر الشعري المتأمل الذي يتحدث عن معنى الحياة والجمال والكون، عن تحديد معنى النص الشعري في الحياة إذ تغير الحياة معناها بتغير موقع وموقف أو رؤية الشاعر إليها . الكتابة الشعرية كتابة مفتوحة، بل هي مناجاة الشاعر لأحلامه المؤرقة وكوابيسه، إنها كتابة بلا واقع لأن هواجس الشاعر المتماثلة أو المتماهية واقعها الوحيد، بهذا المعنى يكمل الشاعر دورته من جديد ويعود إلى البدء الذي بدأ منه بل يعود رغم بحثه عن الجوهر المفقود وجملته الشعرية إلى بداية الكتابة إذ الكتابة معنى وجمال وأطياف وحرائق يستنبتها الوعي الشعري المعذب .
2
الشاعر الذي لا يتجدد ولا يشاكس أو يغامر يشبه أمراة عجوز أو رجل فاته القطار واكتفى بتأمل بائس لروحه المتفسخة واستسلم لليأس . بينما يمضي الشاعر المتجدد حياته بحثاً عن النص الجديد، عن استعادة القصيدة المتسربة من بين يديه ومنطق البحث يجعل الجديد نافلاً لأن من وقع في مصيدة التكرار يخرج منها إلى النسيان أو المقبرة، من هنا يتحدد التكرار بانفصال الذات عن جوهرها والواقع عن دلالته والكلمة عن معناها أو اللغة عن رموزها فيكون العبث في الشاعر أو الشعر الذي يهرب منه . إن اختلاط مستويات الكتابة الشعرية يؤدي إلى اختلاط مستويات القراءة النقدية، والاختلاط هنا نقيض لحالة التداخل المعرفية بين هذه المستويات، وهو ينتج عن تشويش الفكر الشعري المتأمل في هذا الواقع . ثمة التباس آخر توقعنا فيه القراءة النقدية التقليدية وهو عدم معرفة ما هو الشعر المنقود: أهو الشعر المكتوب بطريقة عابرة أم صيغه المبتذلة التي تشكو من الجمود اللغوي والجمالي والمعرفي؟ وشتان بين الاثنين، ولسنا نعتقد أن الشاعر المتجدد يغيب عن هذا الفرق ولكنه يتعمد إيقاعنا في التباس نقدي لسبب لم تدركه القراءة .
التطور في الكتابة الشعرية يكون في الإطار اللغوي الجمالي الفكري أو لا يكون، ولا ننسى التجارب والتجريب أيضاً، وفي هذا الإطار سيكون التطور تابعاً للشعر بالضرورة . أن الخروج من التكرار هو عملية معقدة وليست قراراً والشاعر المتجدد يؤكد على ذلك بحق، والشاعر الذي يكرر تجاربه ومفرداته وموضوعاته الشعرية لا يمكنه أن ينجز هذه المهمة .
أخيراً، حاولنا في هذه المقالة الموجزة الاقتراب أكثر من فهم ظاهرة التكرار والجمود والتقليد في الكتابة الشعرية، معتمدين على نقطة ارتكاز، تبدو لنا في غاية الأهمية، هي القراءة النقدية المجردة المفتوحة والصارمة وإن الانطلاق من هذه النقطة يفرض إعادة النظر أو التأمل في مجمل الكتابات الشعرية القديمة منها والجديدة إذ لا يجوز إغماض العين عن تميز الشاعر المتجدد والشاعر النائم في عالم الأمس، وليست خافية عنا المشكلات النقدية التي تواجه فهمنا أو قراءتنا وتستدعي بالتالي نقدها بشكل معرفي . ثمة سؤال: إلى أي حدّ تحمل مقاربتنا هذه فرصة الحياة في الكتابة الشعرية والنقدية، ذلك ما سيقرره النقد المجرد الذي ننتظر والشاعر المغاير المتجدد .

أحدث المقالات