إنَّ التعريج على الفلسفة السياسية في فكر السيد مقتدى الصدر يتطلَّب منا القول إنَّ السياسة عند السيد مقتدى الصدر جزءٌ لا يتجزَّأ من الدين نفسه، أي انه من المحال التفكيك بين المفهومين، فلو فرض التفكيك بينهما على أساس أنَّ فرض المحال ليس من المحال، فلا بدَّ أن تكون النتيجة أنَّ السيد مقتدى الصدر منحازٌ بالكلية إلى الدين على حساب السياسة، وهذا بالضبط هو ما تنبئ عنه مختلف الأحاديث المنقولة عن سماحته، أو التي يواجه الناس بها علانيةً جهاراً في تصريحاته المنقولة في الإعلام، أو المدوَّنة في خطب الجمعة التي يحرص سماحته على أن يعرض فيها إلى بيان هذه القضية بشكلٍ تفصيليٍّ على الدوام.
قلنا في مواضع سابقةٍ من كتاباتنا السياسية، أنَّ السيد مقتدى الصدر لا يمثّل أفكاره على وجه الحقيقة إلا السيد مقتدى الصدر نفسه، فإذا شاء أحدٌ أن يستقرئ آراءه في قضيةٍ ما، فلا يحقّ له أن يستقرئها بناءً على متابعة الحوارات الجانبية التي يخوضها بعض الصدريين، حتى لو كان الكاتب نفسه، فأنا لا أمثّل في كتابتي هذه إلا نفسي، بمعنى أني أعرض فهمي لفكر السيد مقتدى الصدر، وليس من الضروريّ أن يكون هذا الفهم مطابقاً لآراء السيد مقتدى الصدر من الناحية الواقعية، فهذا هو تأويلي الخاصّ لما أعلمه من كلمات السيد مقتدى الصدر ومواقفه السياسية لا أكثر ولا أقلّ.
أقول هذا رغبةً مني بأن يحذر بعض المحللين السقوط في فخّ تعميم الأقوال التي تصدر من بعض الأشخاص على آراء السيد مقتدى الصدر الواقعية، كما هي موجودةٌ في صقع ذهنه، إذ تشكّل منطلقاتٍ فكريةً وفلسفيةً تبتني عليها تصرّفاته وقراراته في مجال السياسة، وهي مما يقدِّم الغاية الدينية والوطنية على الغايات النفعية أو المصلحية أو البراغماتية التي تكون هي محطّ الاستهداف بالنسبة للسياسيين اليوم في العالم، وإنَّ الغالبية العظمى من المنخرطين في العملية السياسية العراقية اليوم لا يختلفون عن وجهة النظر الأخيرة في شيءٍ، ولهذا ترى كثيراً منهم يتفاخرون بأنهم يخدعون الناخبين، أو أنهم يتوسَّلون بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى الغايات السياسية، أو قل إلى الغايات الذاتية الضيّقة بتعبيرٍ أدقّ، فإذا حاججهم أحدٌ قالوا له إنَّ طراز تفكيرك لم يتجدَّد، وأنك تعتنق وجهات نظرٍ مثاليةً أو أفلاطونيةً في السياسة، في حين أنها أبعد ما تكون عن عالم الأخلاق والمثال، بل إنَّ ما يُعدُّ من الحسنات من وجهة النظر الأخلاقية يُعدُّ من سيئات السياسة ومن ذنوبها التي لا تُغتفر بشكلٍ مؤكَّد.
من الطريف أنَّ بعض الأخوة من الصدريين بات يفهم مقالة السيد الشهيد محمَّد الصدر: ((السياسة لا قلب لها)) بشكلٍ خاطئ، بل بشكلٍ معاكسٍ تماماً لما أراده السيد الشهيد من المعنى لهذه العبارة، وإذ نطق بها السيد مقتدى الصدر أيضاً، انسحب ذلك التأويل الخاطئ على مقصود السيد مقتدى الصدر منها كذلك، إذ فهم منها بعض المغرضين، وشاركهم بهذا الفهم الخاطئ بعض من لا علم له بتمييز الأمور أنَّ السيد الشهيد محمَّد الصدر قصد أنَّ من شاء أن يعمل بالسياسة حتى لو كان من أتباعه يجب أن يتخلى عن جميع معطيات الرأفة والرحمة، بل يجب أن يطرح كلَّ المثل الأخلاقية والدينية من ذهنه، ولا أعلم أية عبقريةٍ فذَّةٍ جعلتهم يفهمون عبارة السيد الشهيد، وتبعا له السيد مقتدى الصدر، على هذا الوجه، لتكتنز في داخلها هذه الدلالة اللائقة بسياسة الفراعنة والقياصرة ومن لفَّ لفَّهم، وهم يشهدون أنفسهم أنَّ سماحة السيد الشهيد إنما هو نائب الإمام المعصوم، وأنَّ سماحة السيد مقتدى الصدر سائرٌ على خطى أبيه الشهيد سيراً حرفياً من دون انحراف، فهل يُعقل أنَّ السيد الشهيد يكون نائباً للإمام المعصوم عليه السلام وفي الوقت نفسه يدعوهم إلى تبنّي ذلك المفهوم الفرعونيّ للسياسة والعياذ بالله.
بالتأكيد لا.
إنَّ السياق الذي وردت فيه هذه العبارة هو هذا ” إنه من الواضح في التجربة أنَّ كلَّ حروب أمريكا ومؤامراتها تجاريةٌ تفتعلها لأجل استنزاف الشعوب البائسة اقتصادياً واجتماعياً لأجل إيفاء النقائص التي قد تحصل في ميزانيتها خلال أيّ عامٍ وبالطبع إنه كما قيل في الحكمة (إنَّ السياسة لا قلب لها) فكلما كان الأمر يجرُّ لها نفعاً اندفعت نحوه وورطت نفسها فيه سواءٌ مع أعدائها أو مع أصدقائها على حدٍّ سواءٍ وتعود النتائج السلبية حقيقةً على الشعوب المظلومة المهتضمة عامةً وعلى المؤمنين خاصةً وهي متعمدةٌ في ذلك” . فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك طبعاً، أدركنا من النصّ أنَّ العبارة المذكورة قد وردت على لسان السيد الشهيد في سياق القدح وليس في سياق المدح كما يقال، أي أنَّ سياسة الطغاة عموماً، والسياسة الأمريكية خصوصاً، من ديدنها أن تكون على هذا الوصف، وليس المقصود أنَّ السياسة الدينية أو السياسة التي تعتمد المبدأ الإنسانيّ من شأنها أن تكون محرومةً من القلب، أو مناقضةً للأخلاق، هكذا يجب أن نفهم دلالة العبارة بالطبع، لا أن نقوم باقتطاعها ثمَّ نضفي عليها تأويلاً نابعاً من مسبقاتنا الذهنية الناشئة من النفس الأمارة بالسوء على حدّ تعبير السيد الشهيد الصدر والأغراض الانتهازية الضيِّقة.
هذا من جانب
ومن جانبٍ آخر، فإنَّ إسنادها إلى الحكماء على لسان السيد الشهيد لا يعني أنَّ هؤلاء الحكماء راضون بالوصف الذي عليه السياسة، كلا أبداً، ولكنهم يقرّرون حالها كما تُمارس فعلاً على أيدي الحكام الذي هم من الطغاة في الغالب.
وهنا يواجهنا الإشكال الآتي: إذا كانت الفلسفة السياسية عند السيد مقتدى الصدر تستند إلى الدين في بنيتها العميقة، بل إنها في البنية الظاهرية كذلك، فإنَّ هذا يعني عدم استناد هذه الرؤية إلى المبدأ الوطنيّ الذي يجب أن يكون هو الغاية الرئيسية لأيّ عملٍ سياسيٍّ في العصور الحديثة، فلقد ولّى ذلك العصر الذي كان المبدأ .الدينيّ يتقدَّم على المبدأ الوطنيّ في رسم معالم النظرية لأية سياسةٍ في العالم.
ونذكر في مقام الإجابة على هذا الإشكال جوابين:
الجواب الأوَّل: وهذا هو الجواب بالنقض بأن يقال إنَّ السياسة غير الدينية لم تستطع أن تفي بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها أمام الشعوب الإسلامية لحدِّ الآن، فإن كان التفكيك بين الدين والسياسة كما هو مقتضى المبدأ العلمانيّ هو الذي يتكفَّل بحصول الازدهار للبلدان، فلماذا حصلت تلك الكوارث السياسية والاقتصادجية والاجتماعية في البلدان التي حكمتها أنظمةٌ علمانيةٌ ربما حارب بعضها الدين بشكلٍ علنيٍّ وسافر، ومن هذا الجواب يتَّضح بطلان الملازمة بين العلمانية وازدهار البلدان في أقلِّ تقدير.
الجواب الثاني: وهذا جوابٌ بالحلّ، وذلك بأن يقال: إنَّ المبدأ الوطنيّ لا يعني شيئاً سوى تحقيق المصالح العليا للعباد والبلاد، ومن المؤكَّد أنَّ الدين – أقصد الدين الواقعيّ- لا يمكن إطلاقاً أن يتخلَّف عن تحقيق هذه الغاية، وعلى هذا الأساس يمكن الجمع بين الغايتين الدينية والوطنية بطبيعة الحال، فإذا تخلَّف الدين عن تحقيق تلك المصالح الواقعية فإنَّ ذلك مؤشِّرٌ إلى أنَّ ما تخيَّلناه من الدين ليس منه في الحقيقة، وبعبارةٍ أوضح، فإنَّ في ذلك مؤشِّراً إلى أنَّ هناك خطأً في التطبيق لا بدَّ من تداركه بمختلف الوسائل التي يتيحها الدين نفسه حتى يتمَّ تعديل المسار في نهاية المطاف.
على أية حالٍ، فإنَّ الدين منهجٌ كاملٌ في العقيدة والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع..إلخ، شريطة أن ينفتح عليه عقل الإنسان الذي استطاع أن يستوعب مشكلات عصره، وأن يتفهَّم بعمقٍ حاجاته الحقيقية، وإلا فإنَّ الخلل المحتمل حصوله ليس حاصلاً من جهة الدين بالتأكيد، بل حاصلٌ من جهة النقص المبتلى به عقل الإنسان نتيجة هيمنة النفس الأمارة بالسوء على مداخل تفكيره ومخارجه، وهذا بالضبط ما يجب أن يتوخّى منه الحذر كلُّ من شاء أن يحتكم إلى الدين للفصل في الأمور ذات المدخلية العالية في تسيير الشؤون العامَّة داخل البلاد.
يقول السيد الشهيد محمَّد الصدر: ” إنَّ يوم الظهور ليس تأريخاً طارئاً أو قدراً مرتجلاً، وإنما هو في واقعه النتيجة الطبيعية الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العامّ …والتي شارك في إعدادها الأنبياء وبلغت من أجلها الشرائع وبذلت في سبيلها التضحيات على مدى التأريخ ” .
إنَّ هذه النتيجة التي يتحدَّث عنها السيد الصدر، إذ يقيم الإمام المهديّ دولته العالمية العادلة هي ما يمثِّل المرحلة العليا من الكمال الأخلاقيّ والروحيّ على مستوى استلهام المعاني العميقة التي توحي بها عقيدة الإسلام، فإنَّ الفلسفة التي تنطوي عليها مسألة غيبة الإمام المهديّ عليه السلام هي ذاتها الفلسفة التي ينطوي عليها الإسلام في حال أننا نتَّهمه بالقصور، وبأننا لم نصادف مصداق قوله في صفة نفسه بأنه تبيانٌ لكلِّ شيء، وأنه يهدي للتي هي أقوم، إلخ من الأوصاف التي تقدِّم القرآن الكريم بوصفه ينطوي على جميع الحلول التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا للمشكلات التي تعاني منها البشرية في جميع الأجيال.
فكما أنَّ الإمام المهديّ عليه السلام مستعدٌّ للظهور في أيِّ وقتٍ يأمر به الله عزَّ وجلّ، في حال وصول البشرية إلى مستوى الاستعداد الكامل لتقبُّل أطروحته العادلة، فإنَّ القرآن لن يكون في نظر الناس على تلك الصفة إلا في حال بلوغ البشرية مرحلة الاستعداد التامّ لتقبُّل الهداية من الإمام المعصوم، فكلاهما قرآنٌ على وجه الحقيقة، ما عدا أنَّ أحدهما ناطقٌ بالآخر، أو قل إنه الترجمان الذي يحكي للبشرية ما يتضمَّنه القرآن القرين الآخر.
ومع ذلك، فإنَّ ها هنا إشكالاً متوقعاً آخر، وهو: إذا كان الإسلام الذي يتكفَّل بتقديم الحلول لمشكلات البشرية رهيناً بالإمام الغائب من الناحية الواقعية، فلماذا يجهد الإسلاميون عموماً أنفسهم في مجال السياسة على وجه الخصوص، أفلا ترون أنَّ العمل السياسيّ بالذات من شأنه أن يجرَّ إلى عددٍ كبيرٍ من الإخفاقات على يد غير المعصوم، بحيث تعود السمعة السيئة على الإسلام نفسه، بل ربما انعكست هذه الإخفاقات سلباً على المشروع الذي تمثله الأطروحة المهدوية نفسها بطبيعة الحال.
والجواب:
أوَّلاً: إننا تحدَّثنا بالكلام الآنف لنقول إنَّ الأطروحة الإسلامية الكاملة لا يمكن تطبيقها إلا على يد الإمام المعصوم عليه السلام، ولا تلازم بين هذه النتيجة والنتيجة التي يعرضها صاحب الإشكال، لأنَّ ما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه بطبيعة الحال، كما أنَّ المؤمنين بالإسلام ما زالوا ينتفعون به في العصور المختلفة، على الرغم من أنهم لم يحصلوا من كنوز القرآن إلا على أقلِّ القليل، فكما أنَّ انتفاع الناس بالإمام في زمن الغيبة هو كما ينتفعون بالشمس خلف السحاب، فكذلك قل عن انتفاع الناس بالإسلام في زمن الغيبة، أي انهم ينتفعون به، لكنه ليس الانتفاع الكامل كما هو واضح.
ثانياً: نعم، إنَّ التجارب السياسية المتخلِّفة أو التي تمتاز بالكثير من الشوائب التي تتمثَّل بأنماط الانتهازية السياسية المختلفة من شأنها أن تنعكس نتائجها سلباً على السمعة العامَّة للأطروحة الدينية بالتأكيد، لكن لا يمكن أن يُقال الشيء نفسه عن التجربة السياسية التي تؤدِّيها بعض القوى الإسلامية كالتيار الصدريّ، فمهما قلنا عن الأخطاء التي ربما صاحبت أداء الصدريين في أثناء قيامهم بأعباء المقاومة السياسية، فإنه لا يختلف اثنان في أنها تجربةٌ تستهدف خدمة الصالح العامّ للبلاد، بما في ذلك إنهاء الاحتلال، وبإمكان أيِّ شخصٍ أن يتخيَّل عدم وجود الصدريين وقائدهم السيد مقتدى الصدر ليدرك النتائج الوخيمة لغيابهم من الساحة السياسية والاجتماعية في العراق، ولا أوجِّه كلامي طبعاً إلى من لا يحكم على الأمور حكماً موضوعياً لا يخضع فيه للأحكام المسبقة، بل أوجِّه كلامي هذا حصراً إلى من يتأمَّل في مجريات الأمور تأمُّلاً موضوعياً صحيحاً يجعله ينطق بالحكم الصائب الذي يتوصَّل إليه من خلال التأمُّل حتى لو كان في مصلحة من لا يتَّفق معهم في الرأي، وقليلٌ ما هم أولئك الذين هم على هذه الصفة بالطبع.
ليس مهمّاً من الناحية العملية أن نبحث في ماهية نظام الحكم الذي يفضِّله سماحة السيد مقتدى الصدر وتبعاً له التيار الصدريّ بالطبع، لأننا لو أردنا أن نفتح هذا الملفّ ونخضع الأفكار والأطروحات التي يمكن أن تتداعى فيه للحوار والسجال فلا أعتقد أنَّ مجلَّداتٍ متعدِّدةً يكون بإمكانها تغطية النقاشات والسجالات الفكرية والسياسية التي من الممكن أن ينفتح عليها في تلك الحال، لذا فإنَّ من الحكمة أن نبحث في العلاقة التي يمكن تصوُّرها بين السياسة والدين في فكر السيد مقتدى الصدر من زاويةٍ أخرى تكون ذات جدوى من الناحية العملية في صياغة مشهد العلاقة بين هذين الحقلين المهمَّين اللذين تفترض وحدتهما من وجهة نظر سماحة السيد مقتدى الصدر، وهي تلك الزاوية التي ننظر من خلالها إلى أنماط التصرُّف والسلوك التي ينفِّذها سماحة السيد مقتدى الصدر من خلال التعامل مع مختلف الملفّات والقضايا الحسّاسة في البلاد، من دون أن يلجأ إلى الوسائل القسرية التي تلجأ إليها بعض القوى الإسلامية في العالمين العربيّ والإسلاميّ.
ليس من المعقول أن يُقال مثلاً إنَّ سماحة السيد مقتدى الصدر ساعٍ إلى ترسيخ المبدأ العلمانيّ في إدارة الدولة العراقية حتى وإن تعامل معه على أساس توخّي المصالح العامَّة للبلاد، فهو إسلاميٌّ حتى النخاع، ولن يرضى بأحكام العقيدة الإسلامية التي يدين بها مما تقرره الشريعة السمحاء بديلاً بطبيعة الحال، بيد أنَّ هذا لا يعني أبداً أنه يفكّر بالطريقة ذاتها التي يفكّر بها بعض الإسلاميين الذين يريدون أن يحرقوا مراحل الطريق كافَّةً في مرحلةٍ واحدةٍ باتجاه إقامة الحكم الإسلاميّ ليطبِّقوا قناعاتهم في دائرة السياسة والاجتماع بشكلٍ قسريٍّ على المجتمعات التي يوجدون فيها، لتكون النتيجة بعد ذلك تأزُّم الأوضاع السياسية والاجتماعية في تلك البلدان، فضلاً عن فقدان تعاطف الجماهير معهم على أساس ذلك الأسلوب القسريّ الذي سوف ترفضه الجماهير بالتأكيد، ناهيك عما يمكن أن يعترض مشروعاتهم من العقبات التي ستفلح القوى الاستكبارية والاستعمارية في نصبها أمام خطواتهم باتجاه تحقيق تلك الغاية، وعن أنَّ روح الشريعة نفسها لا يحبِّذ اتخاذ هذا السبيل أصلاً في فرض الحكم الإسلاميّ على الجماهير، ما لم تتوفَّر القناعة المعتدّ بها بهذا المشروع أوَّلاً بطبيعة الحال.
نعم، إنَّ هناك مأزقاً يعاني منه الإسلاميون في البلدان التي ينخرطون في أنظمة حكمها من خلال المشاركة السياسية على أساس المبدأ العلمانيّ، ولا أقول على أساس الدولة المدنية بالطبع، لأني مقتنعٌ تماماً بأنَّ وصف الدولة المدنية ليس حكراً على الدول التي تحكمها الأنظمة العلمانية، بل هو عامٌّ جدّاً بحيث يشمل الدولة الدينية الحقيقية كذلك، ولا أشاء أن أخوض في هذا البحث الآن، وربما عدنا إلى معالجته مستقبلاً، ولكنني أريد أن أقول إنَّ المأزق الذي يعاني منه الإسلاميون وهم يشاركون في الحكم تحت اللافتة العلمانية للدولة يتمثَّل في أنَّ الإسلاميين لديهم مشروعهم السياسيّ الذي يستمدّ فقراته القانونية والاجتماعية والثقافية من الشريعة الإسلامية بكلِّ تأكيد، لكنهم مضطرون مع ذلك إلى أن يوافقوا على المشاركة السياسية مع القوى والأحزاب العلمانية الأخرى من خلال الانضواء تحت اللافتة العلمانية بالطبع، وهم إذ يفعلون ذلك فإنهم يأملون من خلال هذه المشاركة في تجسيد بعض المبادئ التي تتوخّاها الشريعة تحت قاعدة ((جلب المصالح ودفع الضرر))، فيحاولون ما أمكن تقليص مساحة الضرر المحتمل أن يحصل في حال ابتعادهم المطلق عن المعترك السياسيّ، كما يحاولون تحقيق بعض المصالح المهمَّة من الناحية الدينية بما تنعكس آثاره الإيجابية على مجتمعاتهم الدينية، ومن الواضح انَّ هذا المأزق ناشئٌ من عدم وصول المجتمعات الدينية ذاتها إلى مستوىً معتدٍّ به من الناحية الدينية والإيمانية بحيث يستطيعون توسيع قواعدهم الشعبية إلى درجة استيعابها الأكثرية الساحقة من أبناء البلدان التي يمارسون فيها أنشطتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية.
لا تختلف التجربة السياسية للتيار الصدريّ عن الصورة التي قدَّمناها آنفاً في العراق، فمع أنَّ نظام صدام حسين لم يعد موجوداً الآن فإنَّ الأطروحة الدينية في إدارة المجتمع سياسياً واجتماعياً وثقافياً بقيت معطَّلةً إلا ضمن دائرةٍ لا يمكن أن تشكِّل تعويضاً عن إدارة الدولة من رأس، بفعل عوامل عديدةٍ يمكن الإشارة إلى بعضها بالتالي:
1- الإشراف المباشر من قوات الاحتلال على إدارة مؤسَّسات الدولة العراقية، في المرحلة التي شهدت تشكيل مجلس الحكم، وحتى عندما أجريت الانتخابات في العراق لتشكيل الحكومة الدستورية المنتخبة، فإنَّ الأمر لم يختلف كثيراً عن السابق في واقع الحال إلا من الناحية الشكلية غير المهمَّة، أي انَّ إدارة الدولة بقيت على حالها من جهة سيطرة قوات الاحتلال على القنوات التي تمرُّ من خلالها صناعة القرار في مختلف مؤسَّسات الحكومة، هذا فضلاً عن الروح العامَّة التي تتغلغل في فقرات الدستور العراقيّ، إذ تعبّر عن رغبة هذا الدستور الشاذّ في الحفاظ على مصالح المحتلّ وفلسفته في إدارة شأن الحكم في العراق.
2- لقد أسهمت القوى التكفيرية التي هي قوى دينيةٌ بعناوينها العامَّة في إيجاد حالةٍ من الاشمئزاز لدى مجموعاتٍ واسعةٍ من الناس تجاه البرامج السياسية للأحزاب والقوى الدينية، فإنَّ الغالبية العظمى من النخب الفكرية والثقافية فضلاً عن السواد الأعظم من الناس لا يتخذون مواقف مبتنيةً على أساس التحليل المعمَّق لبرامج القوى الدينية والتمييز بينها على أسسٍ ومعايير موضوعية، بل يُصار غالباً إلى وضع الجميع في سلَّةٍ واحدةٍ مع شديد الأسف، حتى كأنَّ القوى الإسلامية جميعها تعتنق الرؤية التكفيرية ذاتها وتتقاطع مع الحضارة ومفهوم الدولة المدنية بناءً على النظرة السلفية الضيّقة، وهذا ما ألقى بظلاله السلبية على عمل مختلف القوى الإسلامية التي تتقاطع مع أجندات التكفير لدى القوى التي تزعم أنها إسلاميةٌ في حين أنها تنفّذ مشاريع القتل والتدمير في البلدان الإسلامية ذاتها، وغالباً ما تمَّ إلحاق تلك الأوصاف السلبية بالتيار الصدريّ نفسه نتيجة عدم الصبر على التحليل الموضوعيّ لرؤى وتصوُّرات وبرامج هذا التيار في مجالات الثقافة والسياسة والاجتماع مع الأسف.
3- ليس هذا فقط، بل إنَّ مشروع المقاومة الذي تبنّاه التيار الصدريّ منذ البدء، وخاض على أساسه حربين شرستين في النجف وسائر محافظات العراق ضدَّ قوات الاحتلال، وعدم نجاح المحتلّ في جعل التيارالصدريّ يتنازل قيد أنملةٍ عن مشروع المقاومة، جعل الاحتلال يفكِّر بتوريط المقاومة في مأزق الحرب الطائفية، ليتاح له إلصاق مختلف الأوصاف الشائنة بالتيار، ومع أنَّ التيار الصدريّ كان ملتفتاً إلى هذه الخطَّة، إلا أنَّ الاحتلال وبعض القوى التي كانت تسهم بقوَّةٍ في الحكومة العراقية أصابوا بعض النجاح عن طريق استقطاب بعض الأشخاص الذين يمتازون بالسطحية والسذاجة في التفكير، فكوَّنوا منهم مجاميع قتلٍ تورَّطت بالفعل في تلك الحرب الطائفية مع التكفيريين، لكنَّ نجاحهم لم يستمرَّ إلى النهاية ولله الحمد، بل كان نجاحاً مؤقَّتاً فقط، لأنَّ السيد مقتدى الصدر لم يسكت عن أولئك الأفراد الذين انخرطوا في مشروع الحرب الطائفية للمحتلّ، بل قام بفضحهم علانيةً جهاراً من على منبر مسجد الكوفة أمام الإعلام، فضلاً عن تصريحاته المتعدِّدة في الصحافة العراقية والعربية والعالمية، وفي الاستفتاءات التي يجيب من خلالها على أسئلة الجماهير، والبيانات التي يقوم بإصدارها في المناسبات الدينية والوطنية المختلفة، فكان موقفه في كلِّ هذه المظانّ جلياً للغاية من جهة رفضه أن يُعدَّ طرفاً في هذه الحرب الخائنة، أو أن تحُسب عليه تلك الأطراف التي انخرطت فيها من دون أن تنصاع لأوامره في النهي عن الإسهام بقليلٍ أو كثيرٍ في تفاصيلها المؤلمة.
4- إنَّ تيارات الفكر السياسيّ العلمانيّ في العراق تحاول أن تبرهن على صحَّة توجُّهاتها من خلال الإشارة إلى إخفاقات بعض الأحزاب الدينية، أي انها لا تجهد نفسها في تناول الأسس والمباني النظرية لسياساتها بالبحث والدراسة، بل تبرهن بشكلٍ سطحيٍّ من خلال الاستشهاد المتواصل بإخفاق بعض القوى الدينية في المنطقة عموماً والعراق خصوصاً، أو من خلال الربط بين الازدهار الاقتصاديّ والتكنلوجيّ في دول الغرب والعلمانية، والحقّ انَّ هذا الأسلوب في البرهنة حقَّق لهم نجاحاً منقطع النظير في كسب المتعاطفين معهم على هذا الأساس، إذ من الواضح أنَّ البرهنة على العكس تتطلَّب جهداً نظرياً وفلسفياً كبيراً لا يكون السواد الأعظم من الناس أو حتى المثقَّفون مستعدّين للصبر على خوضه أو استيعاب تفاصيله الدقيقة إلى النهاية، ولو التفت المقتنعون بوجهات نظرهم إلى حقيقة أنَّ المعاناة الكبيرة التي عاشت تفاصيلها الشعوب العربية والإسلامية ومنن بينها الشعب العراقيّ بالطبع لعلموا أنَّ مصدر تلك المعاناة كانت هي أنظمة الحكم ذات البرامج السياسية العلمانية، وإلا فهل يمكن أن يُقال إنَّ نظام صدام حسين كان نظاماً دينياً على سبيل المثال، وكذلك قل عن النظام الليبيّ والنظام اليمنيّ والنظام التونسيّ إلخ، فإنها جميعاً أنظمةٌ علمانيةٌ بكلِّ تأكيد.
مع ذلك، فقد استطاع التيار الصدريّ أن يحقِّق جزءاً معتدّاً به مما كان يطمح إليه في ترسيخ مفهوم المقاومة السياسية ضدَّ المحتلّ، على النقيض تماماً من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى التي ربما أحرجها الموقف الوطنيّ في الإعلام فأعلنت على أساس ذلك أنها تنتهج النهج ذاته، لكنها تدعم مشروع الاحتلال في الحقيقة، بل إنَّ الشعب العراقيّ نفسه لم يعد تنطلي عليه تلك التصريحات الإعلامية الكاذبة التي ينطق بها زعماء الكتل السياسية في الإعلام المحلِّيّ والعالميّ، فإنَّ المهمّ هو تحليل المواقف السياسية بحيث يؤدِّي مضمونها إلى تقليص المدَّة الزمنية لبقاء المحتلّ وإحراجه عسكرياً وسياسياً وإعلامياً حتى يتَّخذ بجدٍّ قرار الانسحاب من العراق، وليس المهمّ أن يتقدَّم هؤلاء بالتصريحات التي ظاهرها المطالبة بخروج الاحتلال، وباطنها العبث بمشاعر الجماهير العراقية لتكون الفرصة سانحةً من الناحية الشعبية لتمرير مشاريع الاحتلال من خلال السماح له بالبقاء أطول مدَّةٍ ممكنةٍ في العراق.
بناءً على ذلك، فإنه لا يمكن لنا أن نتبنّى هذه الفكرة الخاطئة التي مفادها أنَّ التيار الصدريّ إذ يشارك في تشكيل الحكومة فإنه ينفِّذ برنامجه السياسيّ بشكلٍ كامل، بل لا يمكن لنا الاعتقاد بأنه ينفِّذ جزءاً معتدّاً به من هذا البرنامج السياسيّ الدينيّ والوطنيّ الكبير، فكلُّ ما فعله التيار الصدريّ هو أن فكَّر بالمتطلَّبات الواقعية للمرحلة السياسية التي يعيش العراق اشتراطاتها الآن، فرأى أنَّ المشاركة في العملية السياسية الجارية في العراق من شأنها أن تحقِّق بعض المكاسب على الصعيد الوطنيّ والدينيّ، حتى لو كانت هذه المشاركة في ظلِّ نظام حكمٍ علمانيّ، ومن الواضح أنَّ التيار الصدريّ لم يتخلَّ عن قناعاته بحاكمية الإسلام على الحياة انطلاقاً من هذه المشاركة، بقدر ما يبتغي منها تحقيق الأهداف الآتية:
الهدف الأوَّل: ترسيخ مبدأ المقاومة السياسية في أروقة الدولة العراقية، لاسيما في البرلمان العراقيّ، ولا يقاس نجاح التيار الصدريّ في تحقيق هذا الهدف بما يحققه بالفعل من التحالفات السريعة التي ربما تحصل في فترةٍ، وينفرط عقدها في فترةٍ أخرى، لكنَّ المهمّ هو أن يكون صوت الاعتراض على بقاء المحتلّ موجوداً في أروقة الحكومة على الدوام، سواءٌ عن طريق الصدريين أنفسهم، أو عن طريق الأصوات التي تنضمُّ إليهم بفعل مختلف المؤثِّرات السياسية والوطنية، ولا يخفى ما لهذا البعد من أهميةٍ قصوى على صعيد إشاعة روح الممانعة الشعبية والحكومية أمام المحتلّ.
الهدف الثاني: إنَّ المقاومة بحاجةٍ إلى مختلف الوسائل التي توفِّر لها الحماية ممن يريدون الانقضاض عليها سواءٌ كانوا أطرافاً تمثل الوجود الماديّ للمحتلّ على الأرض العراقية، أم كانوا أفراداً وقوىً سياسيةً تتعاطف مع المحتلّ، فإذا لم تمدَّ المقاومة أحد أذرعتها المهمَّة في فضاء العملية السياسية، فإنه من الواضح أنَّ هذه الحال ستتسبَّب بوجود الكثير من المآزق الحقيقية للمقاومة التي كان من الممكن تجنُّبها في حال وجود ذراعها السياسيّ في تشكيل الحكومة، وليس من الصحيح أن يُقال في مقابل ذلك: إنَّ المقاومة تضحِّي بجوهرها الحقيقيّ بمثل هذا الصنيع، لأنها ستشارك في حكومةٍ إما أنَّ الاحتلال هو الذي قام بتشكيلها، أو أنها تشارك في حكومةٍ قام بتشكيلها المتعاطفون مع الاحتلال، لأنه يقال في الجواب:
أ- نحن نقول إنَّ المحتلّ يتدخَّل في عمل الحكومة، بل يسهم في تشكيل معالمها في أغلب الأحوال، لكنَّ هذه الحقيقة لا تحجب عنا واقع أنَّ الأشخاص فضلاً عن القوى السياسية التي تسهم في تشكيل الحكومة هم عراقيون، مهما قيل عن مواقف الجميع من قضية الاحتلال، وعلى هذا الأساس، فإنَّ ما هو أساسيٌّ في هذه القضية هو الحكومة التي هي من حقِّ العراقيين فقط أن يقوموا بتشكيلها، أما ما هو غير أساسيّ، بل يمثِّل طرفاً معتدياً على الحقِّ المطلق للعراقيين في تشكيل حكومتهم المستقلَّة هو المحتلّ نفسه، فلا يمكن على هذا الأساس، أن يلام التيار الصدريّ على المشاركة في حكومةٍ هي من حقِّ العراقيين، بل يلام الاحتلال على أنه يصادر حقَّ العراقيين في أن يكونوا مستقلين في تجسيد إرادتهم الكاملة، كما تلام القوى السياسية التي لا تسعى بجهودها إلى تحقيق هذا المطلب الوطنيّ العزيز.
ب- إنَّ المهمّ هو الوجود المعارض للاحتلال في البرلمان العراقيّ، وهذا ما يمارسه الصدريون بقوَّة، فما دام وجودهم معارضاً للاحتلال، فلا يمكن أن يقال إنَّ دخولهم في العملية السياسية جاء برغبةٍ أمريكيةٍ كما يحاول الإيحاء بذلك بعض المحلِّلين السياسيين، وإلا كان الكلام في مستوىً من التهافت بحيث لا يستحقّ أن يكون مجالاً للسجال والنقاش.
ت- إنَّ الصدريين الآن يفرضون إرادتهم في الوجود داخل البرلمان العراقيّ فرضاً عن طريق اتساع قاعدتهم الجماهيرية في الشارع العراقيّ، وهذا ما لا يستطيع الاحتلال ولا المتعاطفون معه أن يتجاهلوه بطبيعة الحال، ولهذا فإنهم حاولوا في مراتٍ عديدةٍ أن يلصقوا تهمة الإرهاب بشخصياتٍ مؤثرةٍ في التيار الصدريّ ليبعدوه عن المشاركة الفاعلة والمؤثرة، لكنَّ كلَّ ذلك لم ينفعهم لوضوح قضية التيار الصدريّ أساساً، إذ هو يتبنى مشروع المقاومة للاحتلال، ولا يتعدّاه إلى مشاريع الإرهاب والقتل والترويع للشعب العراقيّ كما تفعل ذلك قوى التكفير دائماً، والفضل في ذلك لسماحة السيد مقتدى الصدر بطبيعة الحال، لأنه حرص حرصاً كبيراً منذ البدء على أن يكون مفهوم المقاومة العراقية التي يقودها التيار الصدريّ بريئاً من كلِّ ما يشين سمعة المقاومة، ولقد عانى – كما نوَّهنا إلى ذلك مراراً- في سبيل ذلك الكثير الكثير.
الهدف الثالث: إنَّ هناك هدفاً مركزياً للتيار الصدريّ يتمثَّل في تسخير كلِّ الإمكانيات التي تتيحها المشاركة في الحكومة لخدمة الشعب العراقيّ، لكنَّ الحقيقة أنَّ هذا مطلبٌ عسيرٌ للغاية، للأسباب الآتية:
1- وجود الاحتلال نفسه، فإنه يشكِّل عائقاً أمام تفعيل ملفِّ الخدمات، لرغبته في تسخير الأموال العراقية لنفسه عن طريق الاتفاقيات التي يبرمها مع أطرافٍ مؤثرةٍ في الحكومة، مثل قرار التعويضات للشخصيات الاعتبارية والطبيعية من الأمريكيين الذي صوَّتت لصالحه قوى سياسيةٌ عديدةٌ في البرلمان العراقيّ مع الأسف تحت مختلف الضغوط، كما أنَّ هناك دافعاً آخر يدفع حكومة الاحتلال إلى أن تعرقل التقدُّم في هذا الملفّ، إذ من الواضح أنها ترغب في إفشال المشروع السياسيّ للإسلاميين من الأساس، وليكن ذلك عن طريق هيمنتها على القرار الذي تتخذه بعض القوى الإسلامية، فإذا فشل حزبٌ إسلاميٌّ يتسلَّم مقاليد السلطة الآن في إحداث تقدُّمٍ في هذا الملفّ، فإنَّ من شأن هذه الحال أن تحدث صدمةً في الوعي الجماهيريّ بين مؤيِّدي الأحزاب الدينية بمختلف عناوينها ومسمَّياتها، وهذا بالضبط هو ما تريده حكومة الاحتلال في هذه الفترة تمهيداً للفترة القادمة التي ترغب أن يتسلَّم فيها مقاليد الأمور أشخاصٌ يمثِّلون الأحزاب العلمانية بالطبع.
2- المحاصصة السياسية، إذ من الواضح أنَّ هذا المبدأ المقيت في تشكيل الحكومة العراقية جعل الدولة فاقدةً لصفة المركزية من جهة، كما جعل رئيس الحكومة واقعاً تحت ضغط القوى المشاركة في الحكومة من جهةٍ ثانية، فلا يستطيع محاسبة المسؤولين الفاسدين الذين يحظون بدعم كتلهم السياسية بالتأكيد، كما أنَّ رئيس الوزاء سوف يحذر كثيراً من الإقدام على محاسبتهم حرصاً على كيان الحكومة من الانهيار، وربما أدّى تكاتف القوى السياسية الراغبة باستمرار الفساد وهم الأكثرية في البرلمان العراقيّ إلى سحب الثقة من رئيس الوزاء نفسه، لكنَّ ها هنا إشكالاً من الممكن أن يُذكر ضدَّ هذا التقرير، وهو أنَّ التيار الصدريّ مشاركٌ في حكومة المحاصصة، فكيف يصحُّ أن يشكو من هذا المبدأ بناءً على ذلك؟
والجواب: نعم، إنَّ التيار الصدريّ جزءٌ لا يتجزَّأ من حكومة المحاصصة، بيد أنَّ له الحقَّ في أن يوجِّه النقد إلى مبدأ المحاصصة في تشكيل الحكومة، لأنه ليس راغباً فيه حتى وإن اضطرَّ إلى أن يسفَّ إذ أسفَّ الآخرون، فلو توفَّرت النية لدى الأحزاب والقوى السياسية في أن يتخلَّوا عن هذا المبدأ لكان التيار الصدريّ في طليعتهم بالتأكيد، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ سماحة السيد مقتدى الصدر بادر بالفعل إلى إلغاء هذا المبدأ من جانبه، فدعا الوزراء الصدريين في الدورة النيابية السابقة إلى التخلِّي عن مناصبهم لرئيس الحكومة، ليقوم بتشكيل حكومة التكنوقراط كما كان يزعم، لكنَّ رئيس الحكومة لم يقم بخطوةٍ واحدةٍ في هذا الاتجاه، بل أسند تلك الوزارات إلى أشخاصٍ من حزبه وانتهى الأمر.
إذن، لا يتعلَّق الأمر بالتيار الصدريّ بقدر ما يتعلَّق برئيس الحكومة نفسه والقوى السياسية الأخرى التي تشارك في تشكيل الحكومة على أساس ذلك المبدأ.
3- ضعف الاحتجاج الشعبيّ على الحكومة من خلال المظاهرات، إذ من المعلوم أنَّ الحكومة أية حكومةٍ في العالم، وليست الحكومة العراقية فقط، لا يمكن أن يستقيم أداؤها من خلال المراقبة التي تقوم بها أجهزتها المختلفة، بل هناك الرقيب الأهمّ الذي يجب أن يكون حاضراً على الدوام، ومستعدّاً للاحتجاج الشعبيّ العارم على الأداء الحكوميّ إن كان ناقضاً للوعود التي قدَّمتها الكتل السياسية أثناء الانتخابات من خلال المظاهرات.
المشكلة هي أنَّ الشعب العراقيّ لم يعتد على الاحتجاجات السلمية من خلال المظاهرات منذ وقتٍ طويلٍ جدّاً، وحتى في تلك العهود التي أخبرنا تأريخ العراق الحديث أنها كانت تتَّسم بشيءٍ من الحرية السياسية لم يكن الشعب العراقيّ منخرطاً بقوَّةٍ في التأسيس لمظاهراتٍ من شأنها أن تغيِّر مجرى عددٍ هائلٍ من القرارات التي كانت تهدِّد المصلحة الوطنية للعراق، ولا يضرُّ بهذا الاستنتاج ما يقال عن وجود بعض الحوادث التي من الممكن أن تشير إلى اندلاع مظاهرةٍ هنا أو هناك احتجاجاً على قرارٍ أو معاهدةٍ أو ما إلى ذلك من الحوادث التي كانت تستدعي من الشعب أن تكون له الكلمة الفصل فيها بطبيعة الحال.
أمامك المظاهرات التي حصلت في ((25)) شباط من العام 2011م في ساحة التحرير وسائر مدن العراق، فعلى الرغم من أنها كانت ردَّ فعلٍ مباشرٍ لما حصل في تونس ومصر، وعلى الرغم من وجود مبرِّراتٍ كثيرةٍ تدفع بالشعب العراقيّ إلى التظاهر والاحتجاج، وإنَّ بعض هذه المبرِّرات ذات تماسٍّ مباشرٍ بحاجات الناس العامَّة، بل إنَّ أغلب قطاعات الشعب تتحدَّث ضدَّ الحكومة يومياً وتنتقد أداءها خاصَّةً في ميدان الخدمات، إلا أنَّ عدداً محدوداً جدّاً قياساً إلى حجم المعترضين على أداء الحكومة هم الذين شاركوا في هذه المظاهرات، بل حدث ما هو أسوأ بالتأكيد، وهو أنَّ بعض من كان يعترض على أداء الحكومة باستمرارٍ ويقدِّم اللوم للشعب على أنه لم يتظاهر بقوَّةٍ ضدَّ أوضاع الفساد ونهب المال العامّ، بات يوجِّه نقده للمظاهرات نفسها ويعتبرها خارجةً على القانون وتستحقُّ الضرب بالرصاص على هذا الأساس، في مفارقةٍ عجيبةٍ تكشف عن سيكلوجية العلاقة بين المواطن والسلطة في العراق.
الحقيقة أنَّ المتظاهرين العراقيين على قلَّتهم كانوا في الذروة من اللياقة السياسية من خلال التظاهر السلميّ المتحضِّر، إذ لم تسجّل الوقائع حادثة اعتداءٍ واحدةً على منتسبٍ للأجهزة الأمنية العراقية، كما أنَّ أحداً لم يعتد على الدوائر العامَّة ومؤسسات الدولة بالمرَّة، على الرغم من الاستفزاز الكبير الذي قامت به السلطة للمتظاهرين في مختلف محافظات العراق، وكانت مطالب هؤلاء المتظاهرين تصبُّ في اتجاه المطالبة بإصلاح النظام السياسيّ وإنهاء حالة الفساد ومعاقبة المفسدين من المسؤولين في الحكومة العراقية وتحسين الخدمات وليس المطالبة بتغيير النظام أو تقويضه، ومع ذلك فإنَّ عدداً هائلاً من الناس كان يوجِّه نقده إلى هذه المظاهرات، من دون أن يوجد مبرِّرٌ واحدٌ لدى أكثرهم يدعوهم إلى ذلك، الأمر الذي يعكس حالةً من النكوص وعدم المبادرة الشعبية للإصلاح في أنفسنا جميعاً، لأسبابٍ ليس ها هنا مجال الاستفاضة فيها حفاظاً على وحدة الموضوع وعدم الاستطراد بالتفاصيل التي ربما خرجت بنا عن الغاية التي من أجلها قمنا بتأليف هذا الكتاب.
أمّا التيار الصدريّ، فقد كان ينفرد على الدوام بهذه المظاهرات، سواءٌ ضدَّ الاحتلال أم ضدَّ سوء أداء الحكومة، لكنه مهما قيل عن اتساع القاعدة الجماهيرية للصدريين فإنها لا يمكن أن تشكِّل تعويضاً عن سائر قطاعات الشعب العراقيّ لتدعمه في هذه المظاهرات، ومن أجل ذلك دعا سماحة السيد مقتدى الصدر الشعب العراقيّ العزيز إلى دعم التيار الصدريّ في مظاهراته ضدَّ الاحتلال لكي لا تصل النوبة إلى رفع التجميد عن جيش الإمام المهديّ عليه السلام.
لقد أثبتت الأحداث التي جرت في المنطقة العربية والإسلامية مؤخَّراً أنَّ المظاهرات هي الأسلوب الأفضل في تحقيق ما لا يمكن أن يتحقَّق حتى بالسلاح، ولكنَّ الشعوب العربية والإسلامية ومن بينها الشعب العراقيّ بالطبع نادراً ما التفتت إلى قيمتها ونجاعتها وقدرتها على التغيير عبر التأريخ.
إن كان معنى السياسة هو أن تضع الكتلة السياسية المعيَّنة أهدافاً لها ثمَّ تسعى إلى تحقيقها عبر الوسائل السياسية المتاحة، فإنَّ التيار الصدريّ واضعٌ نصب عينيه تلك الأهداف وهو ساعٍ إلى تحقيقها، فإن حصل الإخفاق قليلاً أو كثيراً في تحقيق تلك الأهداف فليس معنى ذلك أنَّ التيار الصدريّ هو المسؤول عن هذا الإخفاق، بل إنَّ هناك عوامل عديدةً تسهم في هذا الإخفاق، هي نفسها تلك العوامل التي تتسبَّب في فشل أداء الحكومة ككلٍّ كما هو واضح.
نعم، إنَّ السياسة فنُّ الممكن، بمعنى أنَّ النظرية السياسية المستمدَّة- استقراءً واستنباطاً- من تنظيرات السيد الشهيد قدِّس سرُّه وكلمات السيد مقتدى الصدر مضافاً إلى ممارساتهما ذات المنشأ والمصبِّ السياسيّ هي من أفضل ما أبدعته العبقرية السياسية لقوى الإسلام الحركيّ في هذا القرن والقرن الماضي، لكنَّ الخلل إنما يتسبَّب به قصور الواقع أو تقصيره بتعبيرٍ أدقّ عن استيعاب المضامين الوطنية والأخلاقية والروحية الكبيرة التي تتمتَّع به تلك النظرية بالتأكيد، وليس القصور الذي يمتاز به الواقع الذي تتعامل معه النظرية السياسية عند السيد محمَّد الصدر والسيد مقتدى الصدر إلا الوجه الآخر من حال التقصير الذي تكون عليه القوى والأحزاب السياسية التي تتألَّف منها العملية السياسية الجارية في العراق، بالإضافة إلى الكوابح الكثيرة التي يقوم بوضعها المحتلّ، والتي ما كان لها أن تكون على هذا المستوى من الفاعلية والتأثير لولا ما يلقاه الاحتلال من الدعم والإسناد على يد هذه القوى والأحزاب مع شديد الأسف.
إنَّ الحجر الأساس للنظرية السياسية الصدرية التي يمكن العمل على صياغة معالمها من قبل الكتاب اليوم هو الدين والأخلاق، على النقيض تماماً من النظرية السياسية المعاصرة التي يعمل بموجبها ساسة العالم غالباً، حيث يتمُّ الفصل بشكلٍ نهائيٍّ بين السياسة بما هي ممارسةٌ تستهدف تحقيق المصالح بغضِّ النظر عن نوع الوسائل المستخدمة في الوصول إليها، أي انَّ الفصل الحادّ بين الدين والأخلاق والعالم المعنويّ والروحيّ بشكلٍ عامٍّ من جهةٍ وبين الممارسة السياسية من جهةٍ أخرى هي النقطة التي تتقاطع فيها النظرية السياسية الصدرية مع السياسة المعاصرة بكلِّ ما فيها من المذاهب والمدارس والاتجاهات، وليست نقطة الافتراق هذه نابعةً من حالة الجهل بما ينبغي أن تكون عليه الممارسة السياسية المعاصرة عند قائد التيار الصدريّ، بل العكس هو الصحيح، أي انَّ المعرفة المعمَّقة بالنتائج الكارثية التي يمكن أن تؤدِّي إليها منهجية الفصل بين السياسة وكلِّ تلك المعطيات الروحية والمعنوية والأخلاقية هي التي تدفع بالقادة الدينيين من طراز السيد مقتدى الصدر إلى تبنِّي هذا الاتجاه بالتأكيد.