(3)
ما معنى البابوية
إن البابا هو رئيس الكنيسة الاعلى، وعندما ذهب بعض الحواريين ( الرسل في المصطلح المسيحي) بالذهاب الى آسيا الصغرى واليونان لنشر المسيحية هناك، كان من بين المذكورين القديس بطرس الذي أقامه السيد المسيح رئيساً على الرسل.( يوحنا: 21/15 – 17).
وفي سنة 67م قتل الامبراطور الروماني الوثني نيرون كلاً من القديسين بطرس وبولص في روما وتم صلبهما مقلوبين، والذى يوصف عصره بعصر الاضطهاد المسيحى، إذ حصد أرواح الكثير من المسيحيين أثناء توليه الحكم.
ورغم أن الإصحاحات الأولى من سفر الأعمال لا تعرف الكثير عن حياة بطرس الرسول، سوى أنه ذهب إلى روما، ووفقا للوثائق المسيحية أن بطرس عاش فى روما، لكنها قطعها بسبب اضطهاد نيرون للمسيحيين، حيث نصحه أصدقاؤه بأن يترك المدينة حتى لا يخسر فرصة استمرار التبشير، ولكن أثناء خروجه من المدينة، رأى يسوع داخلا روما، فسأل يسوع عن وجهة ذهابه، فإجابه “أنا ذاهب لروما لأصلب” فعاد إلى نفسه و دخل المدينة ثانية فرحا، فقبض عليه وصلب مقلوبا حسب طلبه، لكن هذه القصة يراها المؤلف خيالية وتحمل الكثير من المبالغة. (جون درين، مدخل للعهد الجديد).
ويوضح الكتاب أيضا أنه يوجد فى روما هناك الكثير من بقايا العظام وقبور ترجع لوقت مبكر، بعضها يعود إلى القرن الأول الميلادي، ورغم أن هذا هو قبر بطرس، بينما يشكك البعض في أن هذه القبور ليست لأشخاص مسيحيين، إلا أن الكاتب عاد وأكد أن لا يوجد شك فى استشهاد بطرس فى وقت حكم نيرون، وأن قبره موجود فى روما، رغم عدم وجود دليل على أنه مؤسس الكنيسة الرومانية مع بولس، وأن الكنيسة قد بنيت على قبره وقبر بولس.
أما بولس الذي كان يلقب بشاؤول فبعد اعتناقه المسيحية، حيث كان يهوديا فى الأصل، جاب سوريا وآسيا الصغرى وقبرص واليونان، مبشرا بالدين الجديد، ومن ثم ذهب إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية وعاش فيها، حتى لاقى الاضطهاد على أيدى السلطات الرومانية فى زمن الإمبراطور نيرون، وبعد صدرو مرسوما إمبراطورى بألا يكون أحد مسيحيا قتل الكثير من المسيحيين ومنهم القديس بطرس والقديس بولس. ( مفيد الزيدي، موسوعة تاريخ أوروبا – الجزء الأول).
وفي نظر الكنيسة يجسد البابا وحدة الايمان المنظورة، فأولوية البابا هي اساس لاولوية القديس بطرس كما وردت على لسان السيد المسيح في الانجيل المقدس ( متى ١٨/١٦ )، و تقوم أولوية البابا على انه بقوة وظيفته هو الأول في مصف الاساقفة، فهو رئيس الكنيسة كلها ، لذلك فهو يشد عرى الوحدة بين مختلف الكنائس عـلى اختلاف طقوسها وتقاليدها. ويزاول سلطنه العليا عليها بالتعاون مع الاساقفة . بينما لا يحق للاساقفة مزاولة هذه السلطة وحدهم دون وجود رئيسهم اي البابا – ولما كان البابا راعي كل المؤمنين، فهو يضع نفسه في خدمة الكنيسة جمعاء ويشرف على الكنائس الخاصة على اختلاف طقوسها، متمتعا بالتقدم على الكنائس الخاصة أو المحلية . وبالرغم من ان الاساقفة يزاولون السلطة مباشرة في ابرشياتهم الخاصة فللبابا بقوة رئاسته الحق بالتدخل في الامور المهمـة فيبت فيها أو بعوض عنه شخصاً يوليه حق البت فيها أخيراً، فان لاولوية البابا شأن مهم في الامور العقائدية وفي ما يخص السلطة والولاية ولذلك فله الحق، بقوة رسالته التي هي نشر الانجيل، و بعد استشارة الاساقفة وطلب رأى المؤمنين أن يصدر التعليمات الضرورية في أمور الدين والآداب لانارة المؤمنين وهدايتهم ؛ وتعتبر تعاليمه معصومة من الغلط نظراً لكونها صادرة عنه بعد تبادل الرأي بين أعضاء الكنيسة.
ونظراً للصلاحيات الدينية العظيمة التي يتمتع بها البابا ؛ يحق له أن يمارس مختلف السلطات : التشريعية والتدبيرية ( التنفيذية ) والقضائية وقد يطيب للقارىء الكريم التعمق في أوائل تاريخ الكنيسة ليبحث عن مواقف خاصة انخذتها روما أو أسقف روما، برهنت عن ممارسته للسلطـة العليا كخليفة بطرس .(فرنسيس المخلصي، مدينة الفاتيكان، تعريب: يوسف حداد، مطبعة الاديب البغدادية، 1974م، ص8).
فالبعودة إلى أصول المسيحية حيث نرى البابا كليمانس (88 – 97م)، رابع خلفـاء بطرس على كرسي روما يمارس سلطته على كنيسة قورنثيا وكان قسم من كبارالقوم قد أبعدوا عن مراكزهم بطرق غير شرعية؛ فشعر البابا بمسؤوليته وبسلطته فكتب اليهم موبخا وأمر باعادة المبعدين الى أماكنهم . وهذا القديس اغناطيوس الانطاكي( المتوفى سنة 86م) له رسالة حررها سنة 107م الى المؤمنين في روما، تؤكد مكانة خليفة بطرس وأوليته في الكنيسة الجامعة، يقول الانطاكي : ” ان الكنيسة المتقدمة في عاصمة الرومانيين تتقدم أيضاً فـي المحبة …”.( فرنسيس المخلصي، مدينة الفاتيكان، المرجع السابق، ص8- 9).
اما القديس ايريناوس اسقف مدينة لوغدونوم – ليون في بلاد الغال – فرنسا (المتوفى سنة 202م) فأنه يشير في مؤلفاتـه الى الكنيسة المؤسسة في روما من قبل الرسولين المبجلين بطرس وبولس، ويضيف :” … انها أعظم الكنائس وأقدمها واكثرها شهرة “، ثم يعود ليؤكد انها تتقدم على كل الكنائس الاخرى فيكتب ” من أراد أن يتعلـم العقيدة الحقيقية فأنه يجدها في هذه الكنيسة الوحيدة، اذ فيها عقيدة الايمان خالية من الشوائب وقد تسلسلت من أساقفة هذه الكنيسة” . (إيرينيوس ، كتابه ضد الهرطقات ، ج3، ص2- 3). https://arz.wikipedia.org
أما البابا اسطيفان الاول (254 – 257م) فانه يؤكد ـ كما ذكر فيرميليان۔ بانه يدير كرسي بطرس الذي عليه أرسى المسيح أسس الكنيسة ( ذكرهـا القديس قبريانوس في رسالته 75 ، 17 ) . هذه بعض الشهادت المذكورة عند الآباء الاقدمين في أماكن مختلفة، وكلها تشير الى مكانة الكنيسة الرومانية المرموقة وتقدم استفها على سائر الكنائس • ولابد من الاعترف بأن هذه الصدارة توسعت و نضجت على مدى الاجيال وعلى اثر جولات لاهوتية طويلة.
ويلاحظ أن البابوات منذ القرنين الرابع ثم الخامس دافعوا عن الامتياز الذي كانوا يتمتعون به والذي جاءهم من المسيح . كما نرى الجماعات المسيحية تستعيث بالبابوات وترفع دعواها إليهم في محنها طالبة البت في الأمور واصدار الحكم الاخير . وبعض المجامع ـ كالمجمع السرديني (343-344م) تعلن عن رأيها بان البابا هو حارس الحق الاصيل . ونقرأ عن البابا سيرقيوس (٣٨٤-٣٩٩م ) انه أرسل تعليماته الى أسقف تيراكونا في أسبانيا بخصوص منح سر العمـاد وأمره أن يعمل بها .
وكما حدث في كنائس الغرب كذلك في كنائس الشرق، حيث نرى الاساقفة الشرقيين يرفعون طلبهم الى البابا ليبت في بعض الامور ، كما حدث للقديس يوحنا فم الذهب(347–407م ) بطريرك القسطنطينية، وعندما النام مجمع خلقيدونية سنة 451م فان الاساقفة المجتمعين صرخوا بصوت واحد بعد أن قرئت عليهم رسالة البابا لاون الكبير(440 – 461م) : “هذا هو ايمان الرسل، فأن بطرس يكلمنا بفم لاون “.
ان الاولوية التي نتكلم عنها لا تعني فقط البت في الامور العقائدية وحل المشاكل الايمانية، بل تنطبق على الامور الادارية أيضاً : كترشيح الاساقفة ورؤساء الاساقفة والبطاركة؛ لذا نرى البابوات يمارسون حقهم في هذه الامور في مختلف الاجيال، وكان الاساقفة يتداولون ألقاباً كثيرة مثل نائب المسيح وغيرها لكن هذه الالقاب انحصرت منذ القرن الخامس الميلادي في شخص البابا حسب، أما كلمة (بابا) ، فهي يونانية الاصل PAPAS وتعنى الاب وكانت في القديم تطلق على رجال الاكليروس دون تمييز أو حصر، ثم انحصر استعمالها بالاساقفة ورؤساء الاديرة، ومنذ مطلع القرن الخامس أفرد بها شخص الحبر الروماني، اذ نرى البابا غريغوريوس الاول ( 590 – 604م) يأمر بعدم اطلاق هذا الاسم إلا على اساقفة روما . أما في الشرق فقد دام اطلاقها حقبة طويلـة وخاصة على بطاركة الكنيسة الشرقية وبطاركة الكنائس المشرقية الاخرى المستقلة كالنسطورية، والكلدانية، والقبطية والانطاكية بشقيها السريان الارثوذكس والسريان الكاثوليك، والروم السريان، والروم الكاثوليك، والارمن السريان، والارمن الكاثوليك.
وأخذت هذه الحقوق الاساسية تثبت تدريجياً منذ القرن السابع حتى الحادي عشر ولم يطرأ عليها تبدل جدير بالذكر، خاصة بالنسبة الى الاولوية في ميدان
التعليم والتدبير فان البابوات دافعوا عنها لانها من صلاحياتهم الخاصة . أما في الشرق فان الاعتراف بالزعامة البابوية كان بين مد وجزر اذ تارة يعترف بها و يخضع لها وتارة ترفض أو تنكر وهذا هو شأنها الى يومنا هذا -واستمرت الحالة هكذا حتى انتهت إلى مقاطعة نهائية بين الكنيسـة الشرقية والغربية سنة 1054م، وفي الغرب تداعت الاولوية في فترة من الزمن على اثر انحطاط السلطة الكارلونجية نسبة الى امبراطورية شارلمان(800 – 814م) اذ كان الارتباط بينهما وثيقا تدعم الواحدة الأخرى .
ولما جاء البابا غريغوريوس السابع (۱۰۷۳ – ١٠٨٥م) كان عهده عهد ازدهار الكنيسة فاستعادت الاولوية البابوية مكانتها وقوتها، ومما ساعد على تقويتها خلق المركزية في الدوائر البابوية . وأصدر البابا المذكور براءة منها ۲۷ بندا حدد فيها سلطة البابا المطلقة في الكنيسة ازاء الاساقفة وكل ذوى المقامات العليا، ومن بين هذه البنود قانون يعلن عدم شرعية المجمع الكنسي المنعقد دون اذن البابا.
ثم حدث في الكنيسة تجدد حمل أفكاراً في بعضها شطط ومبالغة بخصوص الاولوية ، فقال بعضهم ان السلطة المدنية تأخذ شرعيتها من السلطة الروحية – وعلى هذا المبدأ فللسلطة الروحية حق التدخل في الامور المدنية – ثم ظهر رأى جديد في العصور الوسطى أطلق عليه اسم (الحركة المجمعية) وخلاصة هذا الرأي ان المجمع المسكوني هو أعلى من البابا، وهكذا رفضت الأولوية البابوية، ودامت هذه الحركة بالرغم من تحريمها الى المجمع الفاتيكانی الاول (1869 ـ 1870م ) اذ حدد هذا المجمع مبدأ الاولوية البابوية بصريـح العبارة، وهذا نصه :” ان الاولوية البابوية لا تعني التقدم الشرقي فقط ، بل أولوية التصرف الحقيقية . اذ ان المسيح وعد بطرس بها ثم عهد بها اليه وحده وليس الى جماعة الرسل أو إلى الكنيسة بحد ذاتها …”. (وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، القاهرة، دار العالم العربي، ج1، ص58).
ثم جاء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ( 1962 – 1965م ) ليدعم تعليم المجمع السابق بخصوص الاولوية ويحدد علاقتها الصحيحة مع الدرجة الاسقفية، وهذا نص تعليمه كما جاء في الدستور العقائدي عن الكنيسة ( البند ۲۲ – فی مجرى كلامه عن الجماعة الاسقفية ) قال : “لا سلطة لهذه الجماعة أو الهيئة الاسففية ما لم تكن، في الوقت ذاته، متحدة مع الحبر الروماني خليفة بطرس ، بوصفه رأسها، ومع بقاء سلطان رئاسته كاملا على الجميع رعاة ومؤمنين . فالحبر الروماني في الكنيسة، بحكم وظيفته، أي بوصفه نائبا للمسيح وراعي الكنيسة جمعاء ؛ يمتلك السلطة الكاملة والعليا والشاملة ويستطيع أن يمارسها دائمـاً بحرية “.(وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، المرجع السابق، ج1، ص58 وما بعدها).