18 ديسمبر، 2024 7:47 م

لا أعرف الكثير عن الفصل العشائري، ولا حتى المسميات الداخلة في العرف العشائري عموماً، مع إعتزازي بالإنتماء الى عشيرة أحمل لقبها، لكن من دون تعصب، ولا إستقواء، برغم أن بعض الإصدقاء يحاولون أن يقنعونني أن العشيرة ” عزوة”، وسندك في الملمات التي قد تتعرض اليها، ويقصدون في مقدمة ذلك ” الفصل العشائري”، غير أني لم أزل أرى في العشيرة مجرد مؤسسة إجتماعية ، لها تقاليدها وأعرافها التي لاينبغي أن تتقاطع مع الدولة المدنية والقانون العام، ولاتكون سلطة خارج نطاق سلطة النظام الحاكم، ومؤسساته، لكن هذه القناعات التي تربيت عليها وأحاول أن أدافع عنها تصطدم بواقع مغاير، أجده واضحاً جلياً في العاصمة بغداد التي تمثل مركز الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، من خلال لافتات باتت مألوفة لدى المشاهد البغدادي وهو يرى على هذا المبنى أو ذاك الجدار عبارة : ” مطلوب عشائرياً “، أو ” مطلوب دم”، وهذه أولى مقدمات الفصل العشائري التي ترافقها رصاصات تخويفية تترك أثرها على ” الحيطان”.
لا اطيل عليكم، فقد دعيت لحضور فصل عشائري بين مؤجر ومستأجر، إنتهى بإرغام صاحب الدار ” المؤجر” بدفع 10 ملايين دينار للـ ” المستأجر” بدعوى الأخير أنه ” داس داره” في غيابه، وهدد ” أهل بيته” بإصبع السبابة بإخلاء البيت، وأضيف الى المبلغ 2 مليون دينار عراقي للفرشة، ولجهلي بقواعد وقوانين العشيرة، كدت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع، لكن سبق كلام أحدهم كلامي، وتداركت المعنى الذي لم يكن نفسه الذي في بالي.
رضخ المؤجر للحكم، وكان كما يبدو لايعرف شيئاً عن الأعراف العشائرية مثلي، ولاسيما بعد أن أسمعوه وابلاً من الإطلاقات النارية، للتذكير بخطر الخيار الآخر، ولأنه لايملك المبلغ كله، قررت محكمة الفصل، تضامناً مع الأزمة المالية التي تعيشها البلاد وحالة التقشف، دفع نصف المبلغ نقداً، على أن يقسط الباقي على بدل الإيجار، كما وقعوه على بند ألزموه به بعدم مطالبة المستأجر بإخلاء الدار، الا بإرادته وقناعته، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
إنصرف الفاصلون بعد فرشة الطعام التي تحملها المؤجر، الذي وقف مذهولاً يراجع ماجرى ويحاول أن يقنع نفسه بصواب الإجراء الذي إتخذه خوفاً على أولاده وأحفاده، ثم يتدارك : لكني ماذا فعلت؟ .. هل من قانون ينصفني؟ .. وهذا التساؤل الذي طرحه كان أصعب الأسئلة على كل من وقف معه وحوله، وجاء الجواب من أحدهم حاسماً : ” خليهه على الله”، وأنفض المجلس، فيما أخذ كل واحد يتحدث عن قصة فصل أغرب من الخيال، طالب أمسكه الأستاذ يغش في الإمتحان ففصلوه، وآخر إنتحر لرسوبه ففصلوا رئيس قسمه في الكلية، ولاعب تعرض الى إعاقة من لاعب آخر ففصل، وجرذ الجيران الذي إصطاده الجار فحكم بالفصل، وقصص أخرى تجعلك محاطاً بالفصل من كل مكان، حتى وإن كنت تمشي بصف الجدار، فالفصل العشائري لم يعد حلاً للنزاعات والخلافات، كما هو معروف ، وإنما تحول الى تجارة رابحة، في ظل ضعف سلطة الدولة والقانون.