سأفترض في معرض سطوري، أن إعلان رئيس الوزراء العراقي نهاية الحرب على تنظيم داعش والقضاء عليه صحيح مئة بالمئة، وبذا يكون لزاما علي أن أرفع قبعة الإكبار والإجلال والامتنان، عرفانا له ولمن أسهم من بعيد أو قريب في تحقيق هذه النتيجة. ومادمت قد أسبغت ثوب المصداقية على رئيس الوزراء، أكون ملزما أيضا بالوثوق به، فيما أعلنه مؤخرا بشأن بداية حربه على الفساد.
إذن، هي الحرب الموعودة، تلك هي الحرب على الفساد، فلطالما تناهلت رماحها على مسامع العراقيين، ومافتئت بيض الهند تقطر من جراحهم، ولعل العبادي قصد بإعلانه الحرب على الفساد، البدء بتطبيق القانون وتفعيل قبضة العدالة، وتهيئة أقفاص الاتهام، وزج الفاسدين فيها، ومحاسبتهم بإنزال أشد القصاص بحقهم. وإلا فإن الوعيد والتهديد والضرب بيد من حديد قائم منذ حين، وقد سبق العبادي سلفُه في المنصب بالتلويح بهذه اليد، حتى خال العراقيون أن الحال بالفاسدين سيؤول بهم شر مآل، وسيكونون في ليلة وضحاها شذر مذر، وإن باتوا نارا سيصبحوا رمادا وهباءً منثورا، ولن يبقى منهم على يد رئيس وزرائهم إلا الذكرى السيئة، والأخيرة بدورها سيمحقها النسيان حتما، بفعل السياسة المتبعة في القضاء عليهم عن بكرة أبيهم، وأمهم أيضا.
وبهذا تكون الحرب على الفساد معلنة من قبل، وقد دقت ساعة الصفر لبدئها منذ عقد ونصف العقد من عمر العراقيين، ومن المفترض أن يكون السؤال اليوم: متى تضع هذي الحرب أوزارها؟ لا من أين تبدأ الحرب على الفساد؟ ومعلوم أن الحرب لاتنتهي إلا بانتفاء الدافع لنشوبها، ولا يسدل الستار على فصولها إلا بانقضاء مسبباتها وأسباب اندلاعها، وبغير هذا لا يصح إطلاق مفردة الحرب عليها، بل سيكون إذاك مصطلح مناورة أقرب الى وصفها -هذا في حال افتراضنا جدية القائم بها- حيث أن الحرب أحيانا لاتعكس حالة عداء بين طرفين، لاسيما إذا كان الطرفان “حبايب” فحينها يقفان صفا واحدا بالضد من ثالث يقع عليه وزر الحرب وثقلها ونتائجها وتبعاتها.
تحضرني على ذكر الفاسدين مقولة للفيلسوف السويسري جان جاك روسو، إذ يقول: “أعطني قليلا من الشرفاء، وأنا أحطم لك جيشا من اللصوص والمفسدين والعملاء”. ولو قارنا بين الشعب السويسري والشعب العراقي، لن نجد فرقا من الناحية الفسلجية والتشريحية، فهؤلاء وهؤلاء يتنفسون الهواء، والإثنان (جعل الله لهما عينين وأذنين وشفتين، وهداهما النجدين) ولديهما سائر الأعضاء، ويشتركان في خصائص الإنسان الحياتية جميعها. فيما لو قارنا بين العراق وسويسرا كبلدين، لوجدنا فروقات شتى بين الإثنين، فسويسرا بلد لم يكن في حالة حرب منذ عام 1815م، وليس لديه (نفطات) ولا (تمرات) ولاعتبات ولاشيء من الثروات التي ينعم بها العراق، فمن أين يأتيه المفسدون والسارقون؟ وإن وجدوا شيئا يسرقونه، فهو ما خف حمله وزاد ثمنه، لايلبث أن ينفد بسرعة وينتفي حينها تواجدهم في البلد.
لكن، ولسوء طالع العراقيين أن الفروقات ليست بين البلدين فحسب، بل هي بين اللصوص أيضا، فاللصوص الذين يقصدهم (روسو) هم أشبه بـ (حرامي الدجاج) ومعلوم عن حرامي الدجاج أنه لو تهيأت له فرصة لسرقة المليارات، تقابلها فرصة أخرى لسرقة (فروجة) فإنه يسرق الأخيرة من دون تردد ولايطمع بأكثر منها، وينأى عن المليارات فهي خارج نطاق أطماعه. أما اللصوص الذين يقتاتون على خيرات البلد وقوت الشعب العراقي اليوم، فإن لعابهم يسيل على كل ماتقع عليه أعينهم، ولايقفون عند ماخف حمله وزاد ثمنه فقط، فضلا عن كونهم يحتمون تحت مظلات عدة، أولها مظلة القانون، ثانيها مظلة التدين المزيف، وثالثها مظلة المحاباة والمنسوبية والمحسوبية، ورابعها مظلة انعدام الضمير والأخلاق والحياء، وهم بهذا يسجلون سبقا على سراق المعمورة في الإصرار على استحصال السحت بأية طريقة كانت ومن أي مصدر كان.
فهل يستوجب وضع العراق وجود شخص مثل “روسو” يقضي على اللصوص والفاسدين؟ أم أن العبادي سيقوم بدوره كما مطلوب! يقول مثلنا: (أبو گريوه يبين بالعبرة).