بعد محاولات مستفيظة ومتعددة وبنية صادقة في معرفة ما كان يجري في الأيام الماضية بغية الاستفادة منها واخذ الدروس والعبر والوقوف على اهم الامراض السياسية والإدارية التي كانت تعاني منها الحكومات العراقية السابقة، وكانت أسباباً كافية لسقوطها وكره الشعب لها ومقارنة تلك الأيام بالوقت الحالي وكيفية التخلص من هذه الأوبئة التي أكلت من جسم الشعب حتى النخاع ، فقد تمكنا من الحصول أرشيف قيم لأغلب الجرائد والمجلات العراقية الصادرة منذ عام 1913 التي تحتوي على مواضيع مهمة للغاية، ويمكن للمرء ان يتطلع على تاريخ دولة العراق وأهتمامات حكوماتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية وكيفية معالجتها للمشاكل وتخطي الصعاب وإنه بحق أرشيف كبير ويمثل منظاراً الى الماضي العراقي بتحالفاتها وصراعاتها ومواقفها و خفايا اسرارها وقوتها وضعفها وتعاملها مع الأحداث ويمكن الاستفادة منه ..
وخلال تصفحنا لهذا الأرشيف وقع العيون على مواضيع عديدة، منها ما جرّنا الى المتابعة والقراءة هو موضوع الفساد الإداري والمالي الذي كان يعاني منه الحكومات دون استثناء وبدرجات متفاوتة بل كان سبباً رئيسياً لكره الشعب لها وتذمرهم منها وسقوطها، بل نستطيع القول بأنه كان سبباً مباشراً للإنقلاب على النظام الملكي في 14 تموز 1958 واعلان النظام الجمهوري بقيادة عبدالكريم قاسم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر نشر في جريدة الاستقلال التي كانت جريدة يومية سياسية مستقلة في عددها الأول بتاريخ (9تشرين الثاني سنة 1958) أي بعد الانقلاب بحوالي أربعة اشهر موضوعاً بعنوان رئيسي على الصفحة الأولى (الماني يكتب عن العراق في العهد البائد / الشعب العراقي يكره نوري السعيد و عبدالاله و فيصل) وتم نشر الخبر بالتفصيل في الصفحة الثالثة وتجنباً للاطالة نورد مقتطفات من مقال كتبه صحفي الماني زار العراق في أواخر عام 1957 أي قبل الانقلاب بأقل من سنة بعد زيارته لإيران وفي طريق عودته زار بغداد ومكث فيه لأيام و بعد عودته الى بلاده المانيا نشر مقالاً في جريدته في اقليم بافاريا الألمانية وتم ترجمة المقال من قبل هيئة تحرير جريدة الاستقلال ولم تصل الجريدة الألمانية الى العراق لما انطوى عليه من أقوال ونقل للواقع الملموس في العهد الملكي وبغية عدم اطلاع المواطنين عليه وأن أهم ما ورد في هذا المقال:
يرسل معي الدليل الذي يحمل التعليمات الرسمية التي توصيه إلا يسمح لعين الزائر ان تقع على ما يجب ان تقع عليه وهو يصلح لسياسة الحكومة (مبنى جديد أقيم للزينة – جسر شيد في ظرف من الظروف …)
بينما كنت انتهز الفرصة (أوقات الفراغ) وهي قليلة جداً لأتصل بأحد المثقفين من العراقيين كي يكون دليلاً صريحاً وقد تعرفت بالفعل عليه وهو شاب مملوء غيرة وحماساً ولطيف يتكلم الإنكليزية بطلاقة ..
قلت للصحفي الى اين يا مستر (ك)؟ فقال: الى قلب العاصمة الى حيث يعيش الفقراء و وصلنا بعد حوالي ربع ساعة الى منطقة يكاد سكانها يعيشون في القبور فهي مجموعة من الطرق الضيقة اضطررنا ان نوقف السيارة في مكان خرب وأن نترجل وسرنا وسط تلك الدروب والمنعطفات التي غرقت بالمياه الآسنة وتفوح منها الروائح النتنة.
اجتمعت بخليط من الناس واستمعت الى آرائهم في أنفسهم وفي بلادهم وفي حكومتهم وحتى في قوميتهم، فتحوا لي قلوبهم وتحدثوا لي حديث الشاكي المتذمر ليس من أوضاعهم الداخلية فحسب بل حتى من سياسة بلادي ومن حكومتي بالذات.
فهمت منهم انهم لا يكرهون الأجنبي كما قيل بل يكرهون سياسة الأجانب فقط ومع ذلك فإنهم لا يكرهون الأجانب في اشخاصهم بل يكرهون سياسة بلادهم.
ان حكومة العراق لا يمثل شعب العراق ، ان في العراق رجلاً واحداً يقبض على زمام الحكم بيد من حديد ، أنصاره هم المنعمون وخصومه هم المضطهرون، هذا الرجل هو نوري السعيد ومن بعده عبدالاله ولي العهد فالملك …. ان نوري السعيد هو الحاكم المطلق في العراق سواء كان في الحكم او خارجه انه يدير البلاد دائماً وفي كل وقت يساعده رؤوساء القبائل من أصحاب الأراضي الواسعة (الاقطاع)
حدثني أحدهم ان كرههم الشعب للحكومة بلغ درجة العطف على قاتل خطر قبض عليه البوليس فتدخل الناس واختطفوه من أيديهم لا لشيئ إلا لانه أصبح من خصوم الحكومة أو من ضحاياها ولعل مرد هذا العطف راجع الى ان كل ما تسعى اليه الحكومة صار في نظر الشعب بغضأ وبدون تميز .
يقولون: ان الرشوة متفشية في الدوائر الرسمية وان رؤوساء هذه الدوائر لا هم لهم إلا جر المغانم لهم ولأقاربهم من محسوبيهم ومنسوبيهم فلقد أصبح مألوفاً ان تجد في كل دائرة جميع الموظفين المتعينين من أقارب رئيس الدائرة أو من محسوبي أصدقاءه والعجب ان كل رئيس دائرة يحسب نفسه وكأن الدائرة ملكاً شخصياً له يتصرف فيها كما يشاء.
نوري السعيد يعرف جيداً كل هذا ولكنه يتغاضى عنه وله العذر فإن سبيله الوحيد لأستمرار سيطرته وتحكمه هي إطلاق العنان لمثل هؤلاء، على هذه الصورة إن الموظف الحر النزيه والرجل المخلص المستقيم لا مكان له في حكومة نوري السعيد لانه عندئذ يصطدم بالصعوبات ويتهم بآرائه الهدامة.
في العراق بشر عراة يسترون أجسامهم بالطين.
هذه العبارات وغيرها الكثير احتوته مقال الصحفي الألماني و وردناها في سبيل المثال ويمكن ان نخلص الى النقاط الاتية:
ان الأجانب وخاصة الصحفيين منهم يكتبون عن أماكن زياراتهم ويبحثون عن مكامن الأمور والخفايا من الاسرار والموضوعات ويتصلون بالمتذمرين والبائسين من تصرفات حكوماتهم وهناك من يعاونهم من المواطنين بدوافع متعددة .
ان الفساد الإداري والمالي من الأمراض الفتاكة التي تفتك وتأكل من جسم الشعوب والحكومات وتؤدي الى التذمر والكره لهذه الحكومات وبالتالي إسقاطها.
ان العراق كان ولا يزال الى يومنا هذا يعاني من هذا الوباء القاتل بل بات الفساد في زماننا فناً وعلماً وخبرة وخرجت من اطارها الفردي الى المجموعات والمنظمات .
كل حكومة قائمة تحاول بشتى السبل تشويه سمعة الحكومة السابقة لها واتهامها بالفساد والتقصير والإهمال في تقديم الخدمات وتصف عهدها بالايام السوداء وهكذا دواليك الى يومنا هذا، وتستمر بل خرجت من اطار الحكومة الى المستوى الفردي حيث ان من يتولى منصباً ادارياً يحاول تشويه سمعة من قبله واتهامه بعدم الإخلاص والنزاهة وأفتقاره الى العلم والدراية في مجال أختصاصه وان طال مدة توليه لهذا المنصب .
ان الكتابة عن هذا المقال لا يعني كرهنا للعهد الملكي او ان العهد الجمهوري قضى على الفساد، فلكل عهد نسبة متفاوتة في الفساد وهذا يعني ان الفساد متجذر في العراق وأصبح دماً يجري في العروق. لذا فإن موضوع الإصلاح مهم وكبير و يحتاج الى جهود وقدرات كبيرة وإرادة فولاذية وتضحيات جسام، لأنها تصطدم بالعقبات و المصالح الشخصية، ولكن من يصلح لا يبالي بهؤلاء المتطفلين ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هل نعيش اليوم نفس تلك الأيام ؟