الفرهود مرتين: قيادات العراق الجديد بين التناحر والتلاعب الدولي
في قراءة لمذكرات شلومو هليل وهو أحد الشخصيات المؤسسة في إسرائيل عن عمر ناهز 97 عاما” ما يهمنا ليس المناصب التي شغلها، بل الدور الذي لعبه في واحدة من أكثر الحوادث غموضا” في تاريخ العراق الحديث فقد قاد هليل برفقة عملاء من الموساد عمليات تحريض داخل بغداد أدت إلى نهب ممتلكات اليهود وقتل وجرح العديد منهم في محاولة لدفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين. كان اعترافه الصريح في كتابه عملية بابل بأن العراقيين لم يكونوا مسؤولين عن هذه الفوضى بل إنها كانت خطة مدبرة ويسلط الضوء على كيفية استخدام الفوضى السياسية كأداة لتغيير ديموغرافيا المنطقة.
هذا التكتيك لم يكن معزولًا عن السياق الأوسع للصراع في الشرق الأوسط إذ كان جزءا” من خطة صهيونية تهدف إلى خلق أغلبية يهودية في فلسطين عبر تهجير اليهود العرب قسرا” وليس فقط عبر استقدام المهاجرين الأوروبيين. فكما جرى في العراق، تكررت نفس الاستراتيجية في بلدان عربية أخرى، حيث استُخدمت عمليات تفجير وافتعال أزمات لدفع اليهود نحو الهجرة إلى إسرائيل، وهو ما ساهم لاحقًا في دعم المشروع الصهيوني وترسيخ الاحتلال.
اليوم، وبعد أكثر من ثمانية عقود على الفرهود، نجد أن العراق لا يزال يعاني من التدخلات الخارجية، خاصة بعد عام 2003، حينما أصبح الوطن عراق الفرهود وساحة مفتوحة للتجسس والاختراق. هناك احتمال كبير أن شخصيات مثل شلومو هليل قد زُرعت مجددًا داخل العراق تحت غطاء دبلوماسي أو اقتصادي، مستغلين ضعف الحكومات العراقية وانشغال الأحزاب السياسية بالصراعات الداخلية والفساد. وكما كان العراق ضحية التلاعب السياسي في الماضي، فإنه اليوم يواجه تحديات مشابهة قد تعيد إنتاج نفس السيناريوهات، ولكن بأدوات جديدة.
أما على مستوى القضية الفلسطينية، فإن التاريخ يعيد نفسه من خلال محاولات إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة عبر التطبيع والاختراق الاقتصادي والأمني. فبدلًا من الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن تهجير اليهود العرب وجرائم الاحتلال في فلسطين، يجري تقديم السردية الإسرائيلية باعتبارها الحقيقة المطلقة، بينما يتم تجاهل الأدلة التاريخية التي تكشف دور الصهيونية في تدمير المجتمعات العربية من الداخل.
في المقابل، ظهرت في إسرائيل حركة المؤرخين الجدد التي راجعت الروايات الرسمية وفضحت زيف كثير من الادعاءات، بينما في العالم العربي، لا تزال الكثير من المجتمعات أسيرة السرديات المفروضة دون مراجعة. والأسوأ أن هناك جهات عربية تعمل على تكريس هذه الأكاذيب بدلًا من تفنيدها، فتتحول الأساطير إلى واقع، ويُطمس الواقع خلف ستار من التضليل.
إن إعادة قراءة التاريخ العراقي والفلسطيني بنظرة نقدية ليس ترف فكري بل هو ضرورة لمواجهة التزييف الذي استُخدم عبر العقود لتمرير أجندات سياسية. فلا يمكن للعراق أن ينهض دون إدراك حجم التلاعب والتدخل الذي يتعرض له، ولا يمكن للقضية الفلسطينية أن تُنصف دون فضح دور الصهيونية في تهجير اليهود العرب وتحويلهم إلى ورقة سياسية. المستقبل لا يُبنى على الأوهام بل على وعي حقيقي بالتاريخ، واستعداد وإرادة للبناء والإصلاح.