23 ديسمبر، 2024 4:49 ص

الفرق الباطنية في التاريخ الاسلامي

الفرق الباطنية في التاريخ الاسلامي

8- البابية- القسم الاول
تنسب البابية الى (علي بن محمد رضا الشيرازي). ولد علي محمد الشيرازي المعروف بالباب في الأول من شهر محرم الحرام، عام 1235هـ.ق، الموافق للثالث من أكتوبر/ تشرين الأول، عام 1819م، في مدينة شيراز. أبوه ميرزا محمد رضا البزاز، وأمه فاطمة بيكم، وعلى قول آخر خديجة بيكم(1)، وقال بعضهم إن أباه من السادة الحسينيين(2) .
توفي والده وهو لم يبلغ سن الفطام، فكفله خاله (علي الشيرازي)، وكان من تجار شيراز المشهورين. ولما بلغ السادسة من عمره عهد به خاله الى أحد الشيوخ بغية تعليمه، حيث تلقى دروسه الإبتدائية ومقدمات العلوم لدى الشيخ العابد المعلم محمد، ويستدل من كلام علي محمد أن اسم معلمه محمد: “يا محمد يا معلمي لا تضربني”، ولكن (علي الشيرازي) كان غير راغب في الدراسة، ومع ذلك فإنه تعلم من اللغة العربية شيئًا مع النحو الفارسي؛ غير أنه برع في الخط براعة مدهشة. ولما وجد خاله أن ابن أخته بعيد عن تقبل الدروس العلمية، أرسله الى مدينة (بوشهر) الواقعة على ساحل الخليج العربي بغية الإشراف على متجره، لاسيما وأن التجارة كانت راكدة في تلك الأيام، ولكنه بسبب إلمامه ببعض مسائل الحلال والحرام وبعض الأدعية والأوراد عرف لدى الناس في المنطقة التي كان يعيش فيها بسيد الذكر. وقد مكث في مدينة بوشهر مدة من الزمن، وكان بعض التجار في تلك الحقبة يدرسون العلوم الدينية والرياضيات، لذلك انخرط السيد علي محمد في دراسة الرياضيات التي لم تكن تتعلق بفهم الأرقام وأصول الحسابات، وإنما كانت دراستها فلسفية، وتدخل ضمن مفهوم تسخير روحانيات الكواكب، وكان السيد علي محمد قد درس الفلسفة والعلوم الباطنية وسهرعليها.

وبعد عودته الى مدينة شيراز، وفي سن الثانية عشرة من عمره، تزوج من الآنسة (سرية)(3 )، ورزق منها ولدًا سماه (سيد أحمد)، توفي بعد عام من ولادته، أي عام 1843م، قبل إعلان دعوة بابيته. وبعد هذه الحادثة بفترة قصيرة سافر الباب الى مدينة كربلاء، وحضر دروس الشيخ كاظم الرشتي.
يقول البهائيون، في موضوع التحصيل العلمي والدراسي للباب: “ما أن تفضل السيد الباب في حضور دروس السيد الرشتي، ومع أن حضرة الباب كان شابًا في الرابعة والعشرين من عمره، والسيد الرشتي رجلاً في الخمسين من عمره، والباب تاجرًا حقيرًا -صغيرًا- والرشتي عالمًا موقرًا، حتى أوقف السيد الرشتي درسه احترامًا له، أي الباب، ولفت نظر تلاميذه في الحديث الى حضرة الباب، وكان الرشتي حين الحديث يعامله باحترام فائق وتكريم لائق… فكان السيد الرشتي كثيرًا ما يشير كناية ويلوح الى أن المهدي هو حضرة الباب”(4).

ويذكر أن الباب كان جالسًا عنده يومًا ما، وكانت أشعة الشمس تنفذ الى الغرفة من كوة في الجدار، فقال السيد الرشتي: إن ولي الأمر طالع مثل هذه الشمس الساطعة التي تنير الغرفة وأشار إليه، وكانت مساقط الضوء عليه، ففهم الحاضرون أن المقصود هو علي محمد الشيرازي وأنه القائم الموعود، ثم يتحسر أن أكثر الناس يجهلون الطريق الى الحقيقة.
لا يوجد تأريخ محدد لبدء ميرزا علي محمد الشيرازي دعوى البابية، إلا أنه في ليلة الجمعة، الخامس من جمادى الأولى عام 1260هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر حزيران عام 1844م، وفيما كان ملا حسين البشرويَئي ينظر إليه مفتونًا، ويمهد له من خلال قراءة مقاطع من أحاديث الشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي، من قبيل القول: “إن الإمام، روحي فداه، لما خاف من أعدائه، خرج من هذا العالم، ودخل في جنة الهورقليا(5)، وسيعود في هذا العالم بصورة شخص من أشخاص هذا العالم…” و “يقوم من قبره، أي من بطن أمه”(6).
في هذه الأجواء المناسبة، أعلن دعواه بأنه باب الإمام، ويطلق البابيون والبهائيون على هذه الليلة مبعث النقطة الأولى، لتصبح هذه الليلة مبدأ التاريخ البديع -عندهم- ويضيف البهائيون الى هذه الليلة شرفًا آخر في قولهم إن (ميرزا عباس) نجل البهاء (ميرزا حسين علي) ولد في نهار تلك الليلة، وقد عد البهاء ذلك اليوم عيدًا؛ بل من أهم أعياد البهائيين، حيث يحرم العمل عليهم في هذا اليوم(7).
وبعد إيمان ملا حسين البشرويَئي، انبرى سبعة عشر شخصًا من تلاميذة السيد الرشتي وطلابه، مؤيدين دعوى مصطلح: حروف الحي يساوي 18 لأن (ح)، و (ي) يعادل ثمانية عشر من العدد بحساب الحروف الأبجدية، وهؤلاء الثمانية عشر شخصًا أصبحوا في الحقيقة الناشرين لآراء الباب وأفكاره(8).

ومما لا شك فيه أن البابية قد استفادت، الى درجة ملحوظة (بصورة غير مباشرة)، من التراث الباطني الذي خلفته الفرق الأخرى من التصوف والتشيع الغالي، وخاصة: تراث الحلاج، المقتول سنة 309هـ/ 921م (= صاحب مذهب حلول الله في المخلوق)، والشلمغاني الشيعي، المقتول عام 322هـ/ 933م بتهمة الحلول أيضًا، ومحيي الدين ابن عربي، المتوفى سنة 638هـ/ 1241م، صاحب فكرة (= وحدة الوجود- ووحدة الأديان)، والسهروردي، المقتول عام587هـ/ 1191م، بتهمة تبجيل النور؛ فضلاً عن تراث الأحسائي والكشفي بصورة مباشرة(9).

نشاط الباب
سميت هذه الحركة المغالية بهذا الاسم، نسبة الى زعيمها (علي محمد رضا الشيرازي)، الذي كان تلميذًا لزعيم الحركة الكشفية كاظم الرشتي، وقد لقنه هذا الأخير مباديء الغلو الباطنية، واقنعه بأنه (المهدي المنتظر) الذي سيظـهر بعد وفاته عام 1843م. وبالفعل، وبعد مرور ألف سنة هجرية على الغيبة الكبرى لـ (محمد بن الحسن العسكري) الذي تصادف (1260هـ) الموافقة لسنة (1844م)، أي بعد مرور سنة على وفاة كاظم الرشتي(10). ولم يكذب علي محمد رضا النبؤة، فقد أعلن نفسه في البداية (مهديًا) سنة (1844م) في مدينة شيراز الإيرانية، بحضور الملا حسين البشرويَئي، في ليلة أملى فيها كتابه (قيوم الأسماء)، الأمر الذي دفع بـ (محمد كريم بن إبراهيم خان الكرماني، المتوفى سنة 1870م) أحد زعماء الشيخية والكشفية، الى أن يتخذ موقفًا متشددًا من دعوته، لأنه كان يعتبر نفسه (الباب) الذي تنبأ به أستاذه كاظم الرشتي، وأطلق على حركته (الكريمخانية).

وعلى أية حال فإنه في البداية عدّ نفسه الباب الى الإمام الغائب (= المنتظر)، ومعنى ذلك أنه المصدر الوحيد والطريق الى العلوم الإلهية وعالم الغيب، حيث انتقلت إليه هذه المعرفة من الإمام (المنتظر) وسمى نفسه (الباب)، ومن هنا جاءت تسمية حركته بالـ (بابية). وقد تدرج الباب في ادعاءاته، حيث انتقل الى درجة أعلى حين ادعى بأنه القائم الموعود (= المهدي المنتظر) سنة 1849م؛ لأن روح المهدي حلت فيه، ثم قفز درجة أعلى حين قال بأنه نبي وأن الله قد أرسله الى العالم، وأنه أفضل من محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن شريعته نسخت شريعة محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل أن كتابه (البيان) أفضل من القرآن، وأخيرًا زعم بأنه أحد ظهورات الإله؛ لأن الله قد حل فيه(11). وبهذا لم يختلف زعيم البابية في أسلوبه عن أسلوب غلاة الباطنية الذين سبقوه، بل إنه سار على نهج العديد منهم، الذين زعموا الانتساب الى آل البيت زورًا(12).
لقد أخفى البابيون حقيقة دعوتهم المعادية للإسلام زمنًا، من بداية ادعاء البابية سنة 1844م، حين أعلنوها جهارًا في مؤتمر بدشت سنة 1848م، ففي هذا المؤتمر أعلنت (قرة العين) تلك الغانية اللعوب، تلميذة كاظم الرشتي، ومحظية الميرزا حسين البهاء، أن أحكام الشريعة الأولى -أي المحمدية- قد نسخت، وأن الشريعة الثانية لم تصل إلينا، فنحن الآن في زمن لا تكليف فيه بشيء؛ وهذا ما دعا البعض الى اتهامها بأنها كانت تقول بـ (حل الفروج)، ورفع التكاليف بالكلية؛ فكانت هذه مبررًا لتشجيع الإباحية، ونشرها في محافل البابيين، والترويج لها بين غيرهم من الإيرانيين(13).

وفيما يتعلق بمواقفه، فإنها ليست من بنات أفكاره، وآراؤه ومعتقداته تدل دلالة واضحة على أنه كان متصلاً بالصوفيين الحلوليين وأصحاب وحدة الوجود، الذين كانوا قريبين فكريًا منذ القديم من مفاهيم ومصطلحات الشيعة الغالية وفكرة المهدية التي استعانوا بها في صياغة طائفة من الأوهام والأساطير حول أقطابهم وأوليائهم.
لم يكن (الميرزا علي محمد) جادًا في تحصيل العلوم والمعارف، وإنما كان يستسلم بسهولة الى دراسة الجانب الخرافي من تلك المعارف، كتسخير روحانيات الكواكب والنجوم.

إن هذه الدراسات قد أثرت في عقله تأثيرًا بالغًا، وظهرت عليه علامات الجنون والشذوذ العقلي، وأخذت جميع خلايا جسمه تعاني من تشنج وألم شديدين وهو (أي الباب) عندما كان في مدينة (بوشهر) الواقعة على ساحل الخليج العربي، يصعد الى سطح الدار مكشوف الرأس و يبقى ساعات طويلة من وقت الظهيرة الى المغرب مستقبلاً قرص الشمس، متحملاً حرارتها الشديدة، وكان يكرر هذه العملية يوميًا، وكان بجانب ذلك كله يحب العزلة والانفراد(14).
وفي أيام دراسته عند شيخه (كاظم الرشتي) في كربلاء، انقطع فجأة مع نفر من أقرانه الى الرياضة المعروفة عند المرتاضين بـ (الأربعينية) في مسجد السهلة الواقعة ما بين الكوفة والنجف، على أمل اللقاء بالمهدي المنتظر، وبعد اتمامها خرج، وهو في وضع غير عادي من شرود الذهن والانذهال، وصار يتكلم مع نفسه، لذا عده تلاميذ كاظم الرشتي، تصرفه هذا، خروجًا على الإسلام(15).

وكانت دعوة الباب سرية في بادئ الأمر، وكانت محصورة بين تلامذة الرشتي الذين كانوا، على ما يظهر، يعلمون بها مقدمًا، إذ أن الرشتي الذي أخبر تلامذته بصفاته قد بين للأقربين منهم أنهم يجب أن يؤمنوا به حال إعلانه لدعوته؛ والدليل على ذلك أن الميرزا (الملا حسين البشرويَئي) الذي كان أقرب التلاميذ الى كاظم الرشتي، هو أول من آمن به عندما أسر إليه (الميرزا علي) بادعائه البابية؛ ثم تبعه الشيخيون الآخرون من تلاميذ الرشتي واعترفوا به بأنه هو (الركن الرابع) لهم بعد السيد (كاظم الرشتي)(16). كما اجتمع حوله ثمانية عشر شخصًا من كبار تلامذة الرشتي الذي سماهم (حروف حي)، لأن حرفي: (ح)، و(ي) يعادل الثمانية عشر من العدد بحساب الحروف الأبجدية.
المصادر والمراجع والهوامش:

[1] بيكم : اصطلاح هندي، تعني تأنيث (بيك)، والميم في الكلمتين للتأنيث. محب الدين الخطيب، البهائية (بيروت: المكتب الإسلامي، ط6، 1403هـ- 1983م)، ص11، الهامش(1).
[2] أسد الله فاضل مازندراني، رهبران ورهراوان در تاريخ أديان، تهران، مؤسسه ملى مطبوعات امرى، جلد دوم، ص404.
3] ] في رواية تزوج من السيدة خديجة بيكم علوية النسب.

[4] محمد باقر النجفي، بهائيان، تهران، طهورى،1357هـ، ص28-31.

[5] إحسان إلهي ظهير، البابية عرض ونقد (لاهور- باكستان: إدارة ترجمان السنة، ط3، 1981م- 1401هـ، ص153. والهورقليا: مصطلح سرياني، يعني الجسم الكثيف.

[6] سعيد زاهد زاهداني، البهائية في إيران، تر: كمال السيد (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2015م)، ص153.

[7] ج.أ. أسلمنت، بهاء الله والعصر الجديد، اشراف عباس وشوقي أفندي (حيفا، 1932)، ص58.

[8] استند في تعيين حروف حي على رجعة الائمة الإثني عشر وفاطمة الزهراء ونواب إمام الزمان الأربعة الخاصين. فمع أننا مهما عددناهم لم يتجاوزوا السبعة عشر نفرًا ومعه (= الباب) يصيرون (18) شخصًا، إلا أن حروف الحي (18)، وبإضافته هو نفسه إليهم يكون عددهم (19) شخصًا.

[9] أحمد أمين، ضحى الإسلام (بيروت: دار الكتاب العربي، 1977م)، ج3، ص245.

[10] للمهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية غيبتان: الصغرى وتبدأ من سنة 260هـ لغاية سنة 329هـ، والكبرى تبدأ من سنة 329هـ الى أن يأذن الله لظهوره، ولكن البابيين خرقوا هذه القاعدة؛ بإدعاء الشيرازي البابية، ومن ثَم المهدية.

[11] هذا يذكرنا بموقف علماء اللاهوت النصارى الذين يطرحون فكرة حلول الله في المسيح.

[12] إحسان إلهي ظهير، البابية عرض ونقد، المرجع السابق، ص49- 50.

[13] الآلوسي، مختصر التحفة الإثني عشرية، ص24؛ ولمزيد من المعلومات ينظر: محسن عبد الحميد، حقيقة البابية والبهائية (بيروت- دمشق: المكتب الاسلامي، ط3، 1405هـ- 1985م)، ص108-114.

[14] همايون هَمتي، البابيون والبهائيون (طهران: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الاسلامي، 1410هـ – 1990م)، ص27.

[15] عبد الرزاق الحسني، البابيون والبهائيون، المرجع السابق، ص27- 28.

[16] إحسان إلهي ظهير، البابية عرض ونقد، المرجع السابق، ص57 نقلاً عن (لوح ابن ذئب) لحسين علي المازندراني.