من الذي كان يتصور عندما اعتلى الشاب صدام حسين (42 سنة) سدة الحكم في العراق عام 1979 بمجموعة شابة تساعده في ادارة الحكم، مثل عزة الدوري (37)، وطه الجزراوي (41)، ان العراق قد بدأ مسيرته الحثيثة (والتي لازلنا نرجو ان تتوقف) نحو الانهيار الاقتصادي والسياسي، بل ان وجوده كمجتمع موحد ودولة واحدة اصبح مهددا بشكل جدي وخطير، وهذا الامر لعلع بات الان من الوضوح والجلاء التامين بعد هجمة داعش البربرية واستفتاء برزاني الانفصالي. ربما من كان يتصور هذا الحال الذي وصلنا اليه هم فقط من خطط له من الذين يريدون تدمير العراق وربما قلة قليلة جدا من اصحاب الوعي الاستراتيجي هم من تنبه للمخطط ولا اعلم على كل حال احدا منهم اشار الى ذلك بالتفصيل.
صدام السبعينات كان الشاب الذي حارب الفساد في ندوات جماهيرية عرضت على شاشة التلفزيون وقتها واستمد منها شعبية وتأييدا جماهيريا، وبدأ النهضة الاقتصادية والخطط الخمسية ومع خطواته شهد العراق طفرة في كل شئ يعرفها من عاشها، الا في امر واحد وهو حقوق الانسان وحرية التعبير والرأي التي بدأت تتراجع تراجعا سريعا مأساويا وبدأت الاحزاب السياسية والافكار المتنوعة تختفي بسرعة البرق هي واصحابها من منتمي الاحزاب وحاملي الافكار، ليحل محلها الحزب الواحد ثم حكم العائلة حتى وصلنا الى حكم الفرد الواحد الذي اذا قال قال العراق.
هذه الانطلاقة الاقتصادية والانبهار العام بها اعمت عيون الكثير عن الخطر المحدق ومن رفع لواء المعارضة حينها كان يبدو وحيدا كتائه في صحراء شاسعة لا واحة فيها ولا امل للنجاة منها الا بالموت، وتناوشت الوحوش بالافتراس كل من شكك بالقائد ورهطه وتعرض المعارضون الى اللوم حتى من الاقربين. ولم يفطن الكثير ممن انبهر بالشاب القوي ومجموعته حتى مع اندلاع الحرب التي شنها على ايران وكانت تبدو كل الامور تسير معه. وكان يظن الاغلب ان مخطط الحرب يستهدف ايران خصوصا مع الدعم الدولي والعربي والخليجي منه بشكل خاص بالمال والسلاح لصدام وقوته العسكرية وكانت تبدو الامور، بل وحتى هذه اللحظة لا يزال يعتقد الكثير ان المستهدف الرئيسي كان هو ايران وربما البعض الاخر الذي حاول التوازن، قال انها استهداف للبلدين الجارين المسلمين، بينما الحقيقة بنظري ان المستهدف الحقيقي كان هو العراق اولا وبدرجة رئيسية والباقي هي اهداف ثانوية. وتم استدرج العراق الى فخ محكم بوهم القوة والدعم الدولي وتكشفت الملامح الاولى لهذا الفخ المحكم العجيب بمتانة صنعه في الايام التي تلت غزو الكويت وما تبعها من ايام الحصار الاقتصادي.
الواقع الحالي الان يشهد بان صعود هذه المجموعة النزقة من صدام واتباعه وما قامت به كان تخطيطا استراتيجيا ذكيا للاطاحة بالعراق وليس بجيرانه عبر الاعتماد على غرور شاب متهور واحلام بالزعامة لا يتوانى عن تحقيقها ولو ببحور دم.
هذا الكلام الطويل والتذكير بالماضي غير البعيد والذي عاصرناه جميعا له علاقة وثيقة، بل هو نسخة طبق الاصل لما يجري وسوف يجري في السعودية منذ فترة وبدأ يتضح الان المستقبل الذي ينتظرها. منذ اندلاع الازمة مع قطر، خالفت الكثير بالقول ان هذه الازمة والدعم الامريكي والاسرائيلي لا يستهدف قطرا ابدا، بل هو فخ محكم للسعودية وسوف تتجه الى مصير من الاستنزاف المالي والعسكري ينتي بها الى دولة ممزقة اجتماعيا وتعيش فوضى كالتي يعيشها العراق الان بل واكثر بكثير .فهي تملك كل مقومات الانقسام للتنوع المذهبي والقبلي وللتخلف الثقافي والسياسي الذي فرضه طبيعة الحكم العائلي العشائري من قبل مجموعة جهلة في الدين والدنيا ولقرن من الزمان بدعم مجموعة دينية متخلفة متوحشة. واذا كان العراق استطاع النجاة مؤخرا رغم كم الخسائر الاسطوري الذي قدمه، وبدا انه يتجه نحو نهاية النفق الطويل ولو بعد حين ليس بقريب جدا، فلأن العراق يملك قيادة دينية عاقلة تصدت لمشروع التقسيم ويمتلك ارثا حضاريا ومدنيا من بناء الدولة ساعد في تصدي نخبه المثقفة للمشروع التجزيئي وان الموارد البشرية التي يملكها العراق تفتقدها السعودية بشكل كبير جدا، كما تفتقر الى العوامل الاخرى من مثقفيه ورشد قيادته الدينية.
ان مخطط الاطاحة بالسعودية كدولة عربية كبرى وليس كنظام سعودي هو جزء من مخطط توفير الضمانة الدائمة لأمن اسرائيل، والذي بدأ في وعد بلفور بانشاءها ومن ثم تأسيسسها الفعلي في 1948 وبدأ بعدها الفصل الثاني بتدمير كل الدول المحيطة القريبة منها فكانت مصر اولا ثم العراق وسوريا وليبيا وقد وصل الدور اخيرا الى السعودية ولن تبق بعدها سوى دول الاشبار التي لا قيمة لها بنظر اسرائيل ومن يقف وراءها.
الاطاحة بالنظام السعودي المتخلف هي امنية لكل التقدميين والاحرار ليس في السعودية ولا المنطقة بل في كل مكان في العالم لما قام به من دور تخريبي ولما انتج من افكار ظلامية نشرت الارهاب والرعب في زوايا الارض، كما كانت امنية الاطاحة بصدام امنية كل عراقي. انما ان تتحول الاطاحة بالنظام الى اطاحة بالدولة هذا هو الخطر الاكبر وتستعين القوى التي تفعل ذلك وتنفذ مخططها بمشاعر والآم الضحايا والمضطهدين لتمر اليهم بحيلة شيطانية كما فعلت حين اطاحت بصدام المجرم الذي لم يجد سوى حفرة تدافع عنه وتخلى عنه كل العراقيين حتى اعوانه لانه جميعا كانوا لا يرون فيه الا وحشا. ولكنها حين اطاحت بنظام صدام سلمت العراق الى الفوضى وعن عمد وسبق ترصد واصرار وجعلت الكثير ينظر الى تلك الايام السوداء في تاريخ العراق على انها ايام افضل واجمل باتوا يحلمون بالعودة اليها. وتركتهم لا يقدرون على الرجوع الى الماضي ولا على التقدم الى الامام وابقتهم في حيرة من امرهم لا يدرون ما يفعلون. اما هي فقد حققت تماما ما تريده وهو تحييد العراق كقوة عربية كبرى من المعادلة واصبحت اسرائيل اكثر امنا بغياب العراق وانشغال شعبه بنفسه. واصبحت اسرائيل اكثر جرأة في التعاطي مع محيطها وبدأت تظهر حتى في العراق وبشكل علني بينما كان العراق آخر مكان يمكن لاسرائيل ان تظهر فيه ذيلها وليس رأسها لكنها في مشروع الانفصال البرزاني اطلت رأسها وبكل جسدها بقوة وصراحة ووقاحة ولم تجد ردا يعاقبها ولو حتى على مستوى بسباب الالفاظ. واذا كانت امريكا هي التي اطاحت بصدام فانها نفسها هي التي دعمته بتولي السلطة وهي التي ابقته فيها الى ان اوصل العراق الى ما تريده تماما فازاحته، فان النظام السعودي الان سوف يتلقى دعما امريكيا بل واسرائيليا علنيا هذه المرة وسيدفعه بخطوات كبيرة الى ان يصلا به الى حافة الانهيار، وحينها ستفعل بالشاب المغرور وعصابته كما فعلت امريكا من قبل بصدام وزمرته.
وستبقى قطر كما هي وستبتلع اليمن كل انتفاخ بن سلمان الزائف كما يبتلع القبر غرور الجبابرة.