1- تكريت الأمس البعيد:
كان الفتح الأول لتكريت يوم سقطت فيها مملكة تغلب، آخر الممالك المسيحية في الفتح الإسلامي للعراق. أما الفتح الثاني فهو على يد القائد الإسلامي قاسم سليماني.
ويجدر بنا، هنا، أن نتعرف على تاريخ هذه المدينة المثيرة للجدل. فبكل تأكيد لم يكن يخطر على بال أحد من أهلها أن يصبح اسم مدينته يتردد مئات المرات، يوميا، في الإذاعات والفضائيات والصحف العراقية والعربية والعالمية صباح مساء. ولولا ظهور صدام حسين، (وهو من سكان قرية العوجا التابعة لتكريت، وليس تكريتيا)، لما سمع بها أحد.
فلم يكن اسمها يذكر إلا حين يجري الحديث عن صلاح الدين الأيوبي ومكان ولادته بالصدفة فيها، أو حين تروى أبيات شعرية لأبي نواس يمتدحها فيها بجودة (خمورها) أيام العباسيين.
فهي مدينة صغيرة فقيرة مهملة لا يميزها شيء عن باقي مدن العراق، خصوصاً في زمن الفقر والجهل والتخلف الذي خيم لا على العراق وحده، بل على الكثير من دول الجوار والمنطقة.
وقد تكون أكثر من غيرها تخلفا وتوقفاً عن مسيرة الحياة المدنية المتواضعة من مدن أخرى عراقية. فسامراء – مثلاً – كانت أكثر ازدهاراً وانتعاشاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، بسبب وجود ضريح الإمامين علي الهادي وحسن العسكري (ع) فيها، الأمر الذي يحمل إليها سنوياً أقواماً متعددة متنوعة للزيارة، مع ما يعنيه ذلك من إنفاق على الأكل والمنام والتبضع بالهدايا. وكذلك ما يفرضه على المدينة من واقع مختلف عن تكريت اجتماعياً واقتصادياً، وربما ثقافياً أيضاً.
ولعل هذا ما أثار الحزازات بين أهالي سامراء وتكريت، وجعل بعضهم يتربص ببعضهم الآخر، وإلى زمن قريب. وسامراء كانت من الناحية الإدارية (قضاءً) تابعا للواء (محافظة) بغداد، وكانت تكريت ناحية تابعة لها. وحين تمكن مولود باشا مخلص من اقتناص منصب وزاري في الحكومة الوطنية في الثلاثينيات، سارع إلى فصل مدينته، إدارياً، عن سامراء وجعلها (قضاءً)، تابعا لبغداد مباشرة. يومها خرج أهالي تكريت ليحتفلوا بعيـد (استقلالهم) الوطني احتفالاً نادراً. إذ طافت جموع التكارتة نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، من الصباح وحتى المساء، وهي تهتف هتافاً واحداً لم يتغير: ” تكريت صارت قضاء على عناد سامرا”. (أي رغماً عن أنف سامراء).
لم يكن يوجد فيها، وإلى أن غادرتها في أوائل الستينيات، مطعم من أي نوع أو من أي حج، لأن بيع الطعام لمن لا منزل له في المدينة نقيصة. ومن يزور المدينة، من غير أهلها، يكون ضيف عليها، وبالتالي فمن العيب أن يباع له الطعام. والشيء نفسه ينطبق على الفنادق. هذا بالإضافة إلى أن أحداً لم يكن ليزورها إلا قاصداً، وإلا إذا كان له فيها أحد من الأقارب أو الأصدقاء.
وسوقها القديم الواقع على ضفة نهر دجلة لا تزيد دكاكينه الصغيرة المتلاصقة عن ثمانية، واحد لبيع القماش وآخر للسكر والشاي والسمن والصابون والحلويات، وثالث للحوم ورابع للخضراوات والفواكه. أما سوقها الجديد الواقع شمال المدينة فأوسع وأكثر تنوعا إلى حد معين.
لم يكن فيها شارع كما تعرف الشوارع الآن. فأغلبها أزقة ضيقة. إلى حد أن حماراً يحمل كيساً – مثلاً – يتوقف خط سيره عند وصوله إلى مدخل أحد تلك الأزقة، فيحمل صاحبه الحمولة عنه ليوصلها إلى أصحابها.
منازلها متلاصقة متشابهة في أغلبها وبسيطة. غرفة واحدة لكل الأغراض، وحوش (فناء) واحد، وتنور وحمام عربي وأحياناً مرحاض عربي.
أما المهنة الغالبة على أهلها فهي إما البطالة، حيث يقضي رب الأسرة أيامه في انتظار ما يرسله أبناؤه الجنود أو نواب الضباط أو المعلمون، وهم الأغلبية، أو المهنة التي اشتهر بها التكارتة والدوريون، قبل جيلنــا، وهي تسيير (الأكلاك) من شمال العراق إلى بغداد.
و(الكلك) عبارة عن مجموعة من جلود الأغنام التي تنزع كاملة وسليمة دون ثقوب، وتربط أيديها وتسد فتحة المخرج، وتنفخ من الرقبة، وتشد بإحكام لتصبح (ظَرفاً) منتفخاً، ثم تربط بعضا إلى بعض، ويتم صفها بطريقة هندسية متناسقة، وتقام عليها العمدان الخشبية، وتحنى لتصبح أقواساً، ثم تربط إليها العمدان العَرضانية، لتشكل كوخاً صغيراً مغطى بقماش أو بأغصان الشجر، وتترك أمامه فسحة للاستراحة وتخزين البضائع التي لا تتلف إذا تعرضت للشمس أياماً طويلة.
أما البيض والدجاج فكان يخزن في مؤخرة الكوخ المحمول على جلود الماشية، وتتم عملية بناء الكلك هذه في نقطة الانطلاق، وتفكك ويعاد تفريغ الجلود من هوائها وتدبغ وتكدس في بالات عند نقطة الوصول استعدادا للرحلة التالية.
كانت عشائر تكريت قليلة، وتعد على أصابع اليد الواحدة. وشيوخ تلك القبائل كانوا بسطاء ومتواضعين. فلم يكن هناك فرق ملحوظ بين الشيخ وبين أبناء عشيرته الآخرين، لا في ملبسه ولا في مأكله ولا حتى في مسلكه. فلم تعرف تكريت الإقطاع مطلقا، كما هو في الجنوب أو الوسط. ذلك لأن الشيخ التكريتي الذي يملك أرضاً زراعية أكثر من حاجته يعمد إلى تشغيل أقاربه فيها ويتقاسم معهم المردود، كل حسب حاجته.
2- وتكريت اليوم:
هذه هي تكريت التي غضب الله عليها كل هذا الغضب، وجعلها مدينة صدام حسين الذي قاتل إيران الخميني ثماني سنوات ليحقد عليها الإيرانيون وأحزابها ومليشياتها كل هذا الحقد، وليضعها قاسم سليماني أول أولوياته، ويحشد ما استطاه من قوة ومن رباط الخيل ليدخلها، فاتحا، وليثأر من أهلها وأرضها ومائها وهوائها، ويجعلها معركة (حطينه)، أو (ميسلونه)، أو (قادسيته). رغم أن الذين قاتلوا إيران في الثمانينيات كانوا عراقيين لا تكارتة، وتسعون في المئة منهم شيعة.
ومن قرأ مثلي ما قاله الموقع الإيراني ( عماريون) المقرب من الحرس الثوري لا يملك إلا أن يلعن الساعة التي ظهر فيها داعش ليجعل من أفعاله الشائنة ذريعة تستغلها إيران لجعل احتلالها مبررا ومقبولا ومدعوما، ليس من أمريكا وحدها، بل من السياسيين العراقيين السنة أنفسهم، خوفا أو انتهازية أو جهالة.
يقول الموقع المذكور، على ذمة موقع إيلاف، ” إن لدى الشيعة ثأرا مع أهالي تكريت، وإن هناك أبعادا تاريخية للمعركة الدائرة في هذه المدينة بين الجيش العراقي المدعوم بالميليشيات الشيعية والإيرانية، وبين تنظيم الدولة الاسلامية”.
ويضيف الموقع يقول” إن معركة تحرير محافظة صلاح الدين تحمل أبعادا سياسية واجتماعية وعسكرية، نظرا لأهمية مدينة تكريت الاستراتيجية، ولكنها أيضا تمتلك أهمية خاصة عند الشيعة الذين لديهم ملاحظات تاريخية هامة على سكان وأهالي مدينة تكريت من العرب السنة”.
وتساءل قائلا “لو كانت تكريت مدينة شيعية وكانت القوات التي تريد دخولها من أهل السنة الوهابية فماذا كانوا سيفعلون حينها بسكان وأهالي المدينة؟”.
3- وماذا بعد داعش:
إذن فتحرير تكريت من داعش لن يكون موعدا لبزوغ فجر الحرية والأمن والاستقرار والازدهار على تكريت والموصل وغيرهما. فلن تفعل إيران، ومليشياتها، بأهلهما أقلَّ مما فعلته وتفعله بعرب الأحواز والمواطنين الإيرانيين الآخرين من غير الفرس، من قهر وقمع وقتل وتهجير، حتى وهم إيرانيون يحملون جنسية الدولة الدينية (العادلة).
وسيأتي يوم يترحم فيها العراقيون على داعش، رغم شرورها، مثلما ترحموا على دولة البعث، بكل ما فعلته بأهل تكريت نفسها، قبل غيرهم، وأكثر من سواهم من المواطنين. والذين قتلوا من أهالي تكريت، في أيام صدام حسين، أكثر من أهالي أية مدينة عراقية أخرى. والتريخ حفظ من أسمائهم الكثير.
4- الآتي الأعظم:
إننا نحن اليوم على موعد مع واقع جديد مختلف تماماً عن كل ما عرفناه من ألوان العمل الإرهابي، ومتفوق على كل ما عداه، لأنه لم يكتف بأسلحة (داعش والقاعدة)
المؤسسة على فكرة محاربة الغرب الصهيوني الاستعماري ووكلائه وعملائه (وهذا زور وكذب)، بل أضاف إليها سلاحا آخر أكثر سحرا وأشد قدرة على تخدير المجاميع الجاهلة، حين ألبس فكرته لبوس العزة المذهبية الجريحة، ليس لمواجهة الغرب الاستكباري، كما زعم، (وها هو منسجم ومتفاهم ومتجانس مع الشيطان الأكبر)، بل لدحر خصوم طائفته التاريخيين الذين تسيدوا على العالم الإسلامي عشرات القرون.
لقد أعاد الخميني ووعاظه المخلصون إنتاج مجزرة كربلاء بشكل دراماتيكي فريد، وأغرقوها بالمبالغات والطقوس المبتكرة المتناهية في التهويل والتعويل والتجهيل، وحرصوا، في الوقت نفسه، على افتعال المناسبات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية المتكررة لضمان تواصل استذكارها، لئلا يمنح المواطن الشيعي المنجذب لولاية الفقيه فسحة استراحة واسترخاء قد تقود إلى برود همته عن طلب الثار، ولإبقاء الذات الشيعية الجديدة مشتعلة غضبا، غارقة في أحقادها وجهلها ودمويتها، وساعية إلى الموت وليس إلى الحياة.
وأخيرا:
لقد نقل الخميني حروبه من حدود الأمم مع أعدائها إلى داخل الأمة نفسها بين أبنائها. فحروب الطوائف، اليوم، دخلت كل منزل، في كل حارة وقرية ومدينة في البلد الواحد والملة الواحدة.
ولو كانت لدى الخميني، أو لدى وريثه خامنئي، نظرة مستقبلية حاذقة، في أدنى مستوياتها، لأدرك بسهولة أن هذا النوع من الحروب لا ينتهي بسهولة وفقط عند دخول جيوشه الغازية، ولا ينتصر فيها أحد، وأن ما تكلفته الطائفة المطلوبة بثأر، وما سوف تتكلفه، بحجة التحرير من داعش، من آلام ودموع وقبور، لا بد أن يكلف طائفته مثله، وربما أكثر بكثير. إنه يقتل أتباعه بشراهة، قبل أن يقتل أعداءه، وهم كثيرون وبلا حدود.
سؤال، حين لن يجد قاسم سليماني في تكريت أحدا من أحفاد الخليفة عمر بن الخطاب، من صلبه، ومن معاوية ويزيد، ومن الشمر ذي الجوشن، وصدام حسين، ما عساه يفعل، وما عساه يقول؟!