حينما يدب الفساد في المبادئ فهذا يعني أن الخراب سينخر مجمل حياة الإنسان – أي إنسان-، وهذا المفهوم ينسحب على المسؤول أو السياسي الفاسد الذي يكون نطاق الخراب الذي يسببه على رقعة أوسع من فساد الإنسان العادي، وسيمتد أثره لمفاصل الدولة لأنه يمتلك من السلطات والتأثير ما لا يملكه غيره.
وفي عالم السياسة استعير لفظ الفساد للدلالة على السياسيين أو المسؤولين الذين لا يمتلكون أي مبادئ يعملون بموجبها، بل همهم الأول الثراء الفاحش والنهب القانوني والسرقات الرسمية، واستغلال المنصب أو الوظيفة العامة لتحقيق مآرب ذاتية بحتة، والكثير من هؤلاء الفاسدين هم جزء من العملية السياسية في العراق، التي صممت وفقاً لإرادة المحتل الأمريكي ومصالحه وأطماعه وأهدافه الإستراتيجية.
مبادرة التسوية التاريخية التي أطلقها “التحالف الوطني” الحاكم في العراق مؤخراً، وسلمها إلى ممثل الأمم المتحدة في العراق بهدف تبنيها والتحرك باتجاه بعض القوى السياسية المعارضة خارج العراق، تضمنت بعض الفقرات التي- ربما- تهدف لحماية المتورطين بدماء العراقيين، ونهب ثرواتهم من أطراف العملية السياسية.
ومن باب التمويه أو التغطية أو خداع الآخرين، شملت المبادرة لأول مرة “ضباطاً من الجيش العراقي السابق وشخصيات بارزة معارضة للعملية السياسية وممثلين عن فصائل في المقاومة العراقية” إبان الاحتلال الأميركي، فضلاً عن” شخصيات بعثية تمثل نفسها وليس حزب البعث العربي الاشتراكي”، وهذه الأسماء أو الكيانات، أو الفصائل لم نطلع بعد على مواقفهم من هذه التسوية، وعليه ما زالت هذه المبادرة- حتى الآن- مجرد حبر على ورق.
وحينما نقرأ نص المبادرة يمكن أن نتوقف عند الفقرات التي تناولت جزئية، أو كارثة الفساد، ونستطيع أن نؤكد أنها صيغت بعناية لحماية الفاسدين قبل حماية القتلة والمجرمين لأنها تغافلت عن آثار جرائمهم وعقوباتها، رغم أنها تمثل إبادة جماعية لأنها تمس قوت الإنسان وأمنه.
ونلاحظ أن كلمة الفساد وردت ثلاث مرات في المبادرة، وذلك على النحو الآتي:
– “ضرورة التسوية: التسوية الوطنية العادلة والشاملة والمقبولة صيغة إنقاذية للعراق، وأنها الخيار الاستراتيجي الأفضل لمجتمعنا ودولتنا، ليس فقط إنهاء الخلاف على قضايا الدولة بل تسعى لإعادة بناء الدولة لضمان استمرارها وتقويتها في وجه تحديات الإرهاب والتقسيم واللاأمن واللاعدالة واللامحاسبة واللااستقرار واللاتنمية والجريمة المنظمة والفساد والفوضى”.
– “محاربة الإرهاب والعنف والفساد الذي يستهدف العراقيين ومؤسسات الدولة وعدم إضفاء الشرعية أو المشروعية من قبل جميع الأطراف على تلك الأعمال وترسيخ ذلك تشريعياً”.
– “تعزيز وتيسير الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحكم الرشيد والشفافية مع إيلاء اهتمام خاص لمحاربة الفساد (بما في ذلك المحسوبية السياسية والمحاصصة والمحاباة)”.
وبالتدقيق البسيط يمكننا أن ندرك اللغة الركيكة التي كتبت بها المبادرة، وأيضاً عدم جرأة الطرف الراعي لها بتسمية الأشياء بمسمياتها الصريحة، فبدلاً من تسمية حقيقة ما يجري في الشارع العراقي من صور الانهيار الأمني والظلم وغياب هيبة الدولة والخراب في عموم البلاد نجده يقول:” تسعى لإعادة بناء الدولة لضمان استمرارها وتقويتها في وجه تحديات الإرهاب والتقسيم واللاأمن واللاعدالة واللامحاسبة واللااستقرار واللاتنمية”.
وكما هو الحال مع بقية المبادرات السابقة صرنا نسمع بأصوات مؤيدة لهذه المبادرة، لكن المزعج أن نسمع هذا التطبيل من بعض الأصوات التي هي جزء من آلة الخراب في البلاد، ونجدها تنادي بتطبيق التسوية التاريخية، ولهؤلاء وأمثالهم نقول: هل تأييدكم للمبادرة يلغي حقيقة أنكم متورطون بسرقة ملايين الدولارات من أموال الشعب العراقي، وأن آثار صفقاتكم الفاسدة لم تقف عند حدود المال فقط، بل طالت حياة الأبرياء وقوتهم؟
إن عقود الفساد في وزارات الصحة والتجارة والدفاع والداخلية وغيرها بلغت مستويات فاحشة. وقبل عدة أيام حدثني تاجر عربي قابلته قدراً في إحدى الدول الأوربية بأنه يدفع الرشاوى الضخمة مقدماً لشخصيات محددة ومعروفة في وزارة التجارة مقابل حصوله على عقود توريد المواد الغذائية، وحينما سألته كيف يدفع مئات الآلاف من الدولارات بدون ضمان، أجابني أنه يتعامل مع هؤلاء منذ عدة سنوات ودورهم إرساء المناقصة على شركته، وهم تابعون لشخصية سياسية بارزة!
حالة الفوضى السياسية في عراق ما بعد 2003، أنتجت جيلاً من السياسيين غير المنتمين لبلادهم، وغالبيتهم لهم الاستعداد التام والعلني – أحياناً- لقتل خصومهم من أجل مصالحهم الخاصة، وهم مجرد عصابات منظمة ورسمية تسعى للحصول على ثروات طائلة منهوبة من قوت العراقيين.
من العجب العجاب أن نشاهد هذه القدرات التي يمتلكها هؤلاء الساسة- ومعهم منْ حولهم- على التمثيل، وتقمص شخصية النزيه الصادق والعفيف المخلص، وهم في حقيقتهم فاسدون وسارقون وخائنون للأمانة والوطن!
هي دورة الأيام في الظروف الاستثنائية، لكنها لن تستمر لأن الظلم لا يدوم.