لم يدرك الرئيس السابق صدام حسين حينها في مقابلته للسفيرة الأمريكية (أبريل غلاسبي) عام ١٩٩٠ وقبل الغزو العراقي للكويت بأيام أن إبتسامة غلاسبي والضوء الأخضر الذي كان يوحي كلامها بالموافقة التي إستشفّها الرئيس السابق بإجتياح الكويت على إعتبار أن الأزمة بين الدولتين شأن داخلي لا يحق لأمريكا التدخل فيه، حتى راح صدام حسين في خيلاء غروره وكلمات التطمين التي لمسها من غلاسبي بعدم التدخل يُعلن في بيانه غزو الكويت صبيحة الثاني من آب/أغسطس عام ١٩٩٠.
كان الجحيم ذاته الذي فتح أبوابه للعراقيين، فقد كانت إبتسامة غلاسبي فخاً للنظام لِجرّه إلى مصيدة أحرقت البشر والحجر، كانت مغامرة دفع الشعب العراقي ثمنها غالياً من أرواح بريئة وبُنى تحتية وجيش مُحطّم لوثه اليورانيوم المُنضّب حين تحول طريق العودة والإنكسار من الكويت إلى بغداد مقبرة للمعدات والآليات العسكرية، كان يمكن أن ترى مشهداً مألوفاً لجنود عراقيين، حُفاة وعراة على إستعداد أن يُقايضوا أسلحتهم الخفيفة مقابل توصيلة بأي وسيلة نقل إلى منازلهم، تلاها سنين عِجاف من حصار وجوع وفقر أطبق فكيه على العراقيين إستنزف ما تبقّى من أرواحهم وأرزاقهم ومستقبلهم في سنوات الحصار الإثنى عشر كانت بعناوين إبادة جماعية لشعب يبرئ من أفعال حكامه.
ذلك التاريخ وتلك الأيام غابت عن كثير من العقول المثقوبة هذه الأيام من حكام العراق ما بعد ٢٠٠٣ وزعامات الحكم الجديد الذين يجالسون رومانوسكي السفيرة الأمريكية في بغداد وإبتسامتها التي لا تفارقها عند لقائها كبيرهم قبل صغيرهم، معممهم قبل أفنديهم، حتى وصل حُسن الظن بالبعض حين راح يكيل المديح والثناء للدور الإيجابي الذي تقوم به رومانوسكي في إرساء الإستقرار ودعم النظام السياسي.
وصل التفاؤل مداه عندهم عندما ظنوا أن السيدة رومانوسكي ومن ورائها البيت الأبيض سيكونون حُماة لنظام سياسي مهما بلغ تمزقه وتشرذمه.
لماذا لا يتّعظون من دروس الماضي القريب ويأخذوا العبرة من ذلك الذي لم يعتبر؟.
هل بقي من الضمير الحي ما يتذكر جريمة ملجأ العامرية التي تقارن بجرائم هيروشيما وناكازاكي التي حدثت يوم الاربعاء ١٢ شباط/ فبراير ١٩٩١ فجراً، عندما قامت الطائرات الأمريكية بقصف ملجأ آمن يلجأ إليه المواطنين الأبرياء لقضاء مبيتهم هرباً من الغارات والقصف الجوي، إلا إن الموت حرقاً كان بإنتظارهم، حين أذاب القصف أجساد أكثر من ٤٠٠ مواطن غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، إلتصقت أجسادهم بجدران الملجأ من شدة العصف، كان التبرير لتلك الجريمة من الجانب الأمريكي بأن الرئيس صدام حسين و أحد نجليه كانوا من ضمن المختبئين في الملجأ، لكن هل كان ذلك مبرر لكل هذا التوحش في القتل؟ (الكاتب من ضمن شهود العيان الذي كان يشاهد كتل اللحم البشري المحترقة وهي تخرج محمولة من الملجأ بأكياس النايلون).
كم نحمل من الذاكرة المعطوبة حين لا يقتلنا رصاصهم بل سخافة تفكيرنا وسذاجة عقولنا وموت ذاكرتنا.
إبتسامة رومانوسكي تشابه خليفتها غلاسبي مع بعض التحديثات، لكنها إبتسامة لا تعني الرضا عما يحدث، فحروب التجويع والحصار التي برعت بها أمريكا في تسعينيات القرن الماضي بدأت بوادره تلوح في سماء العراق ليتكرر ذلك السيناريو، يتوازى معه إستغباء سياسي حين يظن صبيان السياسة الذين لا يتجاوز مفهومها عندهم سوى دكاكين صغيرة للإرتزاق والإنتفاع، لاتظنوا إبتسامة رومانوسكي في مجالستكم سوى أنها تخبركم بالقادم الأسوء، لكنها البداية في الإنقلاب الناعم لنظام يجلس على كرسي متصدّع، إرتبط مصيره بإبتسامة رومانوسكي.
يقول الشاعر المتنبي “إذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً، فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ” مع الإعتذار للتشبيه.