ستيفن أي كوك Steven A. Cook
ترجمة / غســـان أحمد نامق Gassan Ahmad namiq
لقد قام المجلس العسكري في القاهرة بعمل سئ في حكم مصر. وهاهو الآن يدفع الثمن.
مرة أخرى ينتشر الغاز المسيل للدموع في ميدان التحرير. فلليوم الثالث على التوالي يقوم الناشطون المصريون والمواطنون العاديون والإسلاميون ومشجعو كرة القدم المشاغبون بمقارعة قوات الأمن المركزي – قوات برلمانية تحت قيادة وزارة الداخلية. حركة الاحتجاج هذه التي عادت لها الحياة أثارت آراء بأن القاهرة قد تكون على شفا موجة ثورية أخرى تشبه تلك التي أطاحت بحسني مبارك في شهر شباط / فبراير.
أشار ناشط مصري على موقع تويتر بابتهاج قائلاً: “لقد خلدت إلى النوم ثم استيقظت بتاريخ 28 يناير / كانون الثاني [يوم الغضب]”. ولكن مع بلوغ عدد القتلى 23 والجرحى أكثر من 1700، كيف يمكن أن بعض المصريين ما يزالون يتوقون إلى ما كان نوبة عنف وخوف؟
ما يحدث في ميدان التحرير – بكل الخوف الذي يثيره – قد يكون لحظة كشف. فمنذ البداية كانت بيانات الجيش المصري عن قيامه بالتهيئة للديمقراطية بعيدة عن المصداقية. فاهتمام الضباط بالبقاء المصدر الوحيد للشرعية السياسية والسلطة، ومصالح الجيش الاقتصادية، وفكرة وزارة الدفاع عن الاستقرار، كل ذلك لا يتماشى مع مصر ذات سمة ديمقراطية متزايدة.
السبب التقريبي للمواجهات الحالية في القاهرة – ويبدو الآن أنها موجودة في أماكن أخرى في أنحاء البلد – جاء نتيجة حب قوات الأمن لإطلاق النار. ربما كانت هذه القوات تعتقد أن إخلاء ميدان التحرير من بضع مئات من المحتجين سيكون نصراً يسيراً ويساعد في إعادة بسط سلطتها. فعلى الرغم من أن بعض الأفراد الوضيعين في قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية يتحملون المسؤولية المباشرة عن العنف الذي يبتلع وسط القاهرة، إلا أنه من الواضح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المخطئ بسبب خلقه بيئة جعلت المصادمات الجارية أمراً محتوماً.
عبر الأشهر التسعة الماضية تعثر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بكل خطوة قام بها في محاولة الحكم، فأدى هذا إلى ابتعاد الحلفاء السابقين والتمهيد للاضطراب الحالي. فرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير محمد طنطاوي وضباطه لم يعطوا المصريين أفقاً سياسياً على الإطلاق ولم يمنحوا السلطة للوزراء المدنيين على الإطلاق، بل فضلوا الاتفاقيات التكتيكية الزائلة مع المجموعات السياسية على المفاوضات الجادة. وبهذا فإننا نحصل على حالات مذهلة مثيرة للسخرية مثل أسماء محفوظ التي تبلغ 26 عاماً – وهي ناشطة معروفة – حيث تم جرها أمام محكمة عسكرية لا لشئ إلا لأنها أهانت طنطاوي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، بينما نجد مؤيدي نظام مبارك مثل وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، وهو رجل مسؤول عن قتل المصريين فعلياً، يمثل أمام قضاة مدنيين تثار حولهم الشكوك في كونهم متعاطفين معه.
وقد تعززت التحفظات حول النوايا الحقيقية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بمحاولاته التأثير سلبياً على محتوى دستور مصر الجديد قبل بدء عملية وضع المسودات. فقد اعتنق سلسلة من المبادئ فوق الدستورية المصممة لخلق موقع مؤثر للقوات المسلحة بأسلوب يشبه امتيازات الجيش التركي التي كان يتمتع بها حتى وقت قريب. وفي الواقع فإن هذه الفكرة كانت من بنات أفكار مدنيين من مثل القاضي هشام بسطاويسي – ليبرالي مزعوم كان أحد أوائل الذين رسموا دوراً سياسياً دائمياً للجيش – ومن غير الواضح فيما إذا كان يعمل مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أم لا أو فيما إذا اعتنق الجيش الأفكار الدائرة في النقاشات العامة والتي تناسب مصالحهم على أفضل وجه. وبصرف النظر عن ذلك، لا يمكن أن تكون ثمة ديمقراطية في مصر بدون رقابة مدنية للقوات المسلحة. وكسابقة، فإن كل الإدعاءات بأن الجيش التركي قد قام بالتمهيد لانتقال تركيا إلى الديمقراطية من خلال القمع وإجبار الإسلاميين على الاعتدال تعاكس المنطق والتاريخ.
إن العملية الانتخابية الطويلة وبالغة التعقيد لم تفعل إلا إثارة الشكوك حول نوايا المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وبالطبع، فقبل بضعة أشهر فقط، كانت المجاميع الليبرالية والثورية تتوسل إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليمنحها المزيد من الوقت – وذلك خشية أن تكتسحها الحركات الإسلامية الأفضل تنظيماً. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العملية المتطاولة والتلميحات إلى أن الانتخابات الرئاسية لن تجرى حتى أوائل عام 2013 قد عززت المخاوف من أن الجيش يشعر بالارتياح في ممارسته السلطة التنفيذية المباشرة.
ومهما كانت تلك المخاوف مفهومة إلا أنها قد تكون قراءة خاطئة لنوايا المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحقيقية. ففي الحقيقة نجد أن الجيش سعى لخلق عملية تضمن الأمن أثناء الانتخابات وتأتي بحكومة شرعية بما فيه الكفاية – ولكن ليست قوية بما يكفي لتتمكن من تحدي نفوذ الجيش المستمر. تلك مهمة بالغة الصعوبة بالنسبة لمجموعة لم تظهر لمسة سياسية بارعة، إلا أن ذلك لم يوقفهم من محاولة تسليم الحكم إلى المدنيين يوماً بيوم – بينما يحتفظون بالسلطة الكلية. فلا عجب إذن أن يشعر المصريون بالإحباط والغضب من سرعة ونوعية الانتقال لديهم.
جذر المشكلة هو نظرة إلى العالم عفا عليها الزمن وتكمن في قلب سوء حسابات الجيش. أولاً، يؤمن الضباط بما كان مبارك يؤمن به – وهو أن الناس المتظاهرين في التحرير وفي أماكن أخرى في البلد لا يأتون من تلك “الأغلبية الصامتة” الأسطورية الواسعة، وبهذا فإنهم لا يمثلون مصر بشكل حقيقي. ثانياً، يؤمن الضباط، بسبب تدريبهم واختلاطهم، بأنهم يعرفون ما هو أفضل للبلد. أخيراً، لأن طنطاوي وفريقه يؤمنون بالأغلبية الصامتة وبدورهم الأساسي في مستقبل مصر السياسي، فإنهم لا يفهمون أن المصريين وبوضوح لا يريدون المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن ينقذ ما يستطيع إنقاذه من النظام السابق بكل تلاعباته وفساده وعنفه – بينما تشير بعض التقارير التحليلية غير العلمية، مثل ذلك الذي وضعه مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في الخريف الحالي، إلى أن أعداداً كبيرة من المصريين تؤيد الجيش.
المعركة الدائرة في الشوارع حالياً تعكس معركة سياسية أوسع على الشرعية والتي تدور لعدة أشهر. فالجيش – الذي يتمسك بالشرعية المتأتية من انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 – منشغل في موقف دفاعي ضد منافسيه في المنظومة السياسية المصرية. ويشتمل هؤلاء المنافسين على المجاميع الثورية التي قد لا تسعى للسلطة بالضرورة ولكنها تعد الراعية لعهد ميدان التحرير. أما الإسلاميون، وهم منافسو الجيش الطبيعيون على السلطة، فيعرضون رؤيتهم ذات المسحة الدينية لمستقبل مصر ونوعاً من السلطة والشرعية يختلف عن الجيش والمجاميع الثورية. أما الجناح اليساري – عملاق السياسة المصرية النائم – فما يزال نائماً. ولكنه قد يؤكد وجوده كمنافس هام: الرواية الثورية المصرية مرتبطة بأفكار قوية عن العدالة الاجتماعية التي يتردد صداها بعمق لدى أعداد كبيرة من المصريين.
يعد مأزق مصر الحالي والعنف الناجم عنه لحظة حرجة في الانتقال السياسي. وبالطبع لا يريد أحد أن يرى المصريين منغمرين في الغاز المسيل للدموع أو مصابين بلا تمييز بالرصاص المطاطي أو مسحوقين بالعربات المدرعة – غير أن الرغبة في النزول إلى الشوارع مرة أخرى تظهر أن الناس، في معركة الشرعيات بمصر، لن يرضخوا للجيش بإرادتهم.
وبشكل لا يمكن تفسيره، فقد تابع الضباط هذه المواجهة بأسلوب لا يفعل شيئاً سوى إثارة المزيد من المعارضة لاستمرار حكم الجيش. فيبدو أنهم قد توصلوا إلى استنتاج مختلف تماماً عن أي جهة أخرى بشأن من وما أنهى حكم مبارك. ويبدو أن الضباط يؤمنون بصدق بأنهم مسؤولون عن موت الرئيس السابق وليس الناس في الشوارع. وكما كان الحال مع مبارك – الذي كان في أيامه الأخيرة ما يزال يعتقد بأنه يعرف ما هو الأفضل لشعبه – فإن هذا الجهل المتعمد بالديناميكيات السياسية الحقيقية في مصر يمكن أن يكون دمار المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
عن موقع مجلة “السياسة الخارجية” الأمريكية.
22 تشرين الثاني / نوفمبر 2011
http://www.foreignpolicy.com/articles/2011/11/21/egypt_clashes_tahrir_scaf?page=0,1