7 فبراير، 2025 7:17 ص

الغموض الدستوري في عقد القرض العام

الغموض الدستوري في عقد القرض العام

يعتمدُ العراقُ في الغالب من إيراداته في الموازنة العامة على عائدات مبيعات النفط. ومع ذلك، قد تشهدُ أسعاره انخفاضاً بنحو لا يسمح لتلك الإيرادات بتغطية النفقات العامة، خاصة في ظل اتساعها. ولذا، تسعى الدولة إلى البحث عن مصادر أخرى للإيرادات، ومنها القرض العام.

يُمكن تعريف القرض العام بأنه المبلغ المالي الذي تحصلُ عليه الدولة عن طريق اللجوء إلى الغير (الأفراد، أو المصارف، أو المؤسسات المالية)، مع التعهد بردِ المبلغِ ودفع الفوائد المتفق عليها خلال فترة القرض وفقاً للشروط المحددة(1).

إذا كان دخل الدولة من أملاكها الخاصة ومن الضرائب والرسوم يُعرف بالواردات العادية، فإن الإصدارات النقدية والقروض العامة تُعرف بالواردات الاستثنائية أو غير العادية(2) ، لأنها لا تتمتع بصفة الدورية والانتظام(3).

لذلك، فإن اللجوء إلى القرض العام يكون نتيجة لعجز مصادر الإيرادات العادية عن تمويل النفقات العامة للدولة(4).

أما الطبيعة القانونية للقرض العام، فهي أنه عقد بين طرفين (المُقرض والمُقترِض)، حيث يحق للمُقرض قبول القرض أو رفضه. وتتعهَّد الدولة أو أحد مرافقها (المُقترِض) برد مبلغ القرض عند حلول ميعاده، كما يتوجبُ على المُقترِض دفع الفوائد السنوية المتفق عليها طوال مدة القرض. ولذا، يُعدّ عقد القرض من العقود الإدارية التي يكون أحد أطرافها شخصاً من أشخاص القانون العام، ويتضمن شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص(5).

ويتنازع الموقف من القرض نظريتان في الفكر المالي، هما: النظرية المالية التقليدية، التي تذهب إلى أن القروض هي من المصادر الاستثنائية ولا يجوز اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود. ويعزز أصحاب هذه النظرية موقفهم بآراء أبرزها أن القرض لا يعد مصدراً حقيقياً مثل الضرائب والرسوم، على أساس أن القرض هو ضريبة مؤجّلة تتحمّل الأجيال المقبلة أعباءها. لكن النظرية الحديثة لا تمانع من اللجوء إلى القرض متى استدعت الظروف المالية والاقتصادية، ويرد أصحابها بأن الدولة لا تلجأ إلى القرض لتمويل الإنفاق الاستهلاكي، بل لتمويل الإنفاق الاستثماري لزيادة الإنتاج القومي(6).

تُعدّ القروض العامة من أهم مصادر الإيرادات غير العادية في العصر الحاضر، وهي في شكلها الحالي حديثة العهد، حيث يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثامن عشر. وقبل ذلك، كان الأمراء والملوك، إذا احتاجوا إلى النقود، يلجؤون إلى الاقتراض من الماليين على أساس الثقة الشخصية بهم. وكانوا غالباً ما يرهنون أراضيهم أو جواهر التاج لضمان ما يقترضونه، أو يتنازلون للدائنين عن تحصيل بعض الضرائب خلال مدة معينة لتحديد حصيلتها كدَيْن وفوائد(7).

أما العراق، فقد لجأ إلى القروض في بدايات القرن العشرين، وخاصة القروض الدولية والخارجية. إلا أنه كان في مناسبات محددة، وليس بشكل دائم، وذلك يعود إلى عدم حاجة العراق الفعلية للاعتماد على هذا النوع من الإيرادات بسبب توافر إيرادات النفط(8).

إلا أن أهمية القروض العامة قد تزايدت لمعظم دول العالم، ومنها العراق، نتيجة لتراجع أسعار النفط، ولأسباب سياسية واقتصادية، مما أدى إلى ظهور عجز في الموازنة العامة للدولة، وعدم كفاية مواردها الأخرى لسد هذا العجز(9).

وتفترض القواعد الدستورية في أغلب الدول ضرورة الحصول على إذن ممثلي الشعب لإصدار القروض العامة، لارتباط الدولة بالتزام مالي. ويتم موافقة السلطة التشريعية على إصدار القرض لما تقتضيه طبيعة الرقابة على الإيرادات العامة التي تحصل عليها الدولة وكيفية إنفاقها(10).

إلا أن قانون إصدار القرض العام هو مجرد قانون شكلي، إذ لا يتضمن أي قواعد آمرة للقائمين في الدولة، بل كل ما يتضمنه هو موافقة السلطة التشريعية على قيام الدولة بإصدار قرض عام بمبلغ معين وطبقاً لشروط معينة(11).

ويرجع اشتراط موافقة السلطة التشريعية على القروض العامة لأسباب سياسية واقتصادية، منها الوقوف على مبررات القرض ومجالات إنفاقه. والسبب الآخر هو أن تلك السلطة، طالما تملك الحق في فرض الضرائب، فمن الطبيعي أن يكون لها الحق في الموافقة على القروض. وبخلافه، فإن السلطة التنفيذية سوف تلجأ إلى القروض العامة كلما رفضت السلطة التشريعية فرض ضرائب جديدة. كما أن مناقشة القرض من قبل ممثلي الشعب يؤدي إلى الحد من الإسراف الحكومي(12).

وقد أخذت أغلب دساتير دول المنطقة بهذا الاتجاه، حيث اشترطت موافقة مجالسها النيابية على القروض العامة.

إذ نصت المادة (127) من دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014 (المعدل) على الآتي “لا يجوز للسلطة التنفيذية الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج في الموازنة العامة المعتمدة يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب”.

فيما نصت المادة (88) من دستور لبنان لسنة 1926 (المعدل) على الآتي: “لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة إلا بموجب قانون”.

ونصت المادة (136)  من دستور دولة الكويت لسنة 1962 (المعدل) على الآتي: “تعقد القروض العامة بقانون، ويجوز أن تقرض الدولة أو أن تكفل قرضا بقانون أو في حدود الاعتمادات المقررة لهذا الغرض بقانون الميزانية”.

أما المادة (108) من دستور مملكة البحرين لسنة 2002 (المعدل)، فقد نصّت على الآتي “أ- تُعقد القروض العامة بقانون، ويجوز أن تقرض الدولة أو أن تكفل قرضاً بقانون في حدود الاعتمادات المقررة لهذا الغرض بقانون الميزانية. ب – يجوز للهيئات المحلية من بلديات أو مؤسسات عامة أن تقرض أو تقترض أو تكفل قرضاً وفقاً للقوانين الخاصة بها”.

في حين نصت المادة (33/ 2) من المملكة الاردنية الهاشمية لسنة 1952 (المعدل) على الآتي “المعاهدات والاتفاقات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئاً من النفقات أو مساس فـي حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة لا تكون نافذة إلا إذا وافق عليها مجلس الأمة ولا يجوز فـي أي حال أن تكون الشروط السرية فـي معاهدة أو اتفاق ما مناقضة للشروط العلنية”.

لكن الملاحظ أن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) لم يفرد نصاً صريحاً يُلزم بأن يكون القرض العام بقانون، أسوة بالضريبة والرسم. لكنه في المادة (110) نصّ على الآتي: تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الآتية: أولاً: رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وابرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية”.

وبموجب هذا النص، فقد خصَّ السلطة الاتحادية بسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وإبرامها، دون أن يحدد أي من السلطتين، سواء كانت التشريعية أم التنفيذية.

وقد تثار اجتهادات بأن هذا النص يُقصد به السلطة التشريعية دون التنفيذية، لكن المتضح لدينا أن النص غامضٌ، إذ لم يُسند الاختصاص في إبرام القروض العامة بشكل قطعي.

إلا أن هناك اتجاهاً يرى أن الإذن القانوني بالاقتراض أصبح اليوم، مثله مثل مبدأ قانونية الضريبة، مبدأً دستورياً، وواحداً من الأصول المعهودة في مالية الدولة التي يجب على الإدارة احترامها، حتى وإن لم ينص عليها الدستور صراحة. وأن مخالفتها تجعل من القروض معدومة من الناحية القانونية(13).

إزاء غموض النص الدستوري آنفاً وعدم بيانه الصريح للسلطة المختصة بالموافقة على عقد القروض العامة، جاء قانون الإدارة المالية رقم (6) لسنة 2019 (المعدل)، وضمن باب إقرار الموازنة، لينص في المادة (12) على الآتي: “لمجلس النواب:.. رابعاً: المصادقة على القروض والضمانات السيادية والاتفاقات الدولية”(14).

أما قانون الدين العام رقم (94) لسنة 2004 (المعدل)، فقد خوّل وزير المالية إبرام القروض، بيد أن هذا التخويل ينصرف إلى القروض الاختيارية فحسب، أما القروض الإجبارية فلم يتطرق القانون المذكور إليها. وهذا يعني أن هذا النوع من القروض لا تستطيع الإدارة اللجوء إليه ما لم ينص قانون خاص به(15).

وقد درج العراق على الاقتراض بموجب قوانين الموازنة، والمثال على ذلك، المادة (2/ ثانياً) من القانون رقم (13) لسنة 2023 (الموازنة الاتحادية لجمهورية العراق للسنوات المالية 2023- 2024—2025) التي تنص على الآتي: “… ويُغطى هذا العجز من الوفرة المالية من زيادة أسعار بيع النفط الخام المصدر أو من زيادة صادرات النفط الخام أو الاقتراض الداخلي والخارجي ومن مبالغ النقد المدورة في حساب وزارة المالية الاتحادية بحسب التفاصيل المبينة في أدناه..”(16).

كما لجأ إلى الاقتراض بموجب قوانين مستقلة، والمثال على ذلك قانون الاقتراض المحلي والخارجي لتمويل العجز المالي لعام 2020 رقم (5) لسنة 2020، الذي خوّل وزير المالية الاقتراض الخارجي بما لا يزيد على (5) مليارات دولار، والاقتراض الداخلي بما لا يزيد على (15) تريليون دينار عراقي(17).

وقانون تمويل العجز المالي رقم (26) لسنة 2021 الذي خوّل وزير المالية أيضاً صلاحية الاقتراض الداخلي والخارجي مبلغ (12) تريليون دينار(18).

وقد كان السبب في هذين القرضين هو لتمويل العجز، بالاستناد إلى المادة (39) من قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 (المعدل) التي أكدت أن الاقتراض الداخلي والخارجي هو لتغطية العجز في الموازنة العامة الاتحادية.

لكن مجلس النواب شرّع قانون تخصيص وتمويل نفقات انتخابات مجلس النواب رقم (23) لسنة 2020، والذي تضمنت المادة الأولى منه، تخصيص جزء من المبالغ المحددة في قانون تمويل العجز المالي رقم (26) لسنة 2021 ؛ لتمويل نفقات الانتخابات العامة لمجلس النواب لسنة 2021، استثناءً من قانون الإدارة المالية الاتحادية(19).

ورغم إقرارنا بأن قانونية القرض العام أمر حتمي استقر عليه فقهاء التشريع المالي، أسوةً بالضريبة والرسوم، فإن ذلك لا يمنع من وجوب إدراج هذا المبدأ في نص دستوري حاكم يلزم عرض أي عقد قرض عام على مجلس النواب، دفعاً للاجتهادات في قراءة المادة (110/ أولاً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، ولتعزيز الرقابة على الإيرادات العامة. وهو ما يتعين الانتباه إليه من قبل أي لجنة تُشكل للتعديلات الدستورية.

وبناءً على ما تقدم، نقترح تعديل المادة (61) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) لتُقرأ على النحو التالي: “يختص مجلس النواب بما يأتي:… رابعاً: إقرار القروض العامة بقانون”، ومن ثم يُعاد تسلسل بقية الفقرات التالية لهذه المادة.

 

……………………………………………

الهوامش

1- د. عادل أحمد حشيش، أساسيات المالية العامة، دار النهضة العربية، لبنان، 1992، ص221.

2- د. عباس محمد نصر الله، المالية العامة والموازنة العامة، الطبعة الأولى، منشورات زين الحقوقية، لبنان، 2019، ص24.

3- د. سوزي عادل ناشد، الوجيز في المالية العامة، دار الجامعة الجديدة للنشر، مصر، 2000، ص239.

4- د. حسن محمد القاضي، الإدارة المالية العامة، الطبعة الأولى، الأكاديميون للنشر والتوزيع، الأردن، 2014، ص119.

5- د. أعاد حمود القيسي، المالية العامة والتشريع الضريبي، الطبعة التاسعة، دار الثقافة للنشر التوزيع، الاردن، 2019، ص72.

6- د. عادل العلي، المالية العامة والقانون المالي والضريبي العامة، دار إثراء للنشر التوزيع، الاردن، 2011، ص270- 271.

7- د. محمود رياض عطية، موجز في المالية العامة، دار المعارف، مصر، 1969، ص314.

8- د. قبس حسن عواد البدراني، الوجيز في قانون المالية العامة، الطبعة الأولى، منشورات زين الحقوقية، لبنان، 2018، ص249.

9- د. أشرف محمد حمامدة، القانون المالي، مركز البحوث والدراسات، المملكة العربية السعودية، 2018، ص109.

10- د. عزت قناوي، أساسيات في المالية العامة، دار العلم للنشر والتوزيع، مصر، 2006، ص178.

11- د. سوزي عادل ناشد، مصدر سابق، ص251.

12- د. طاهر الجنابي، علم المالية والتشريع المالي، طبعة جديدة ومنقحة، المكتبة القانونية، العراق، 2017، ص78.

13- د. حيدر وهاب عبود، دراسة في الطبيعة القانونية للقروض العامة، بحث منشور في مجلة كلية الحقوق في جامعة النهرين، العدد: 1، كانون الأول/ 2021، ص26.

14- الوقائع العراقية، بالعدد: 4550، بتاريخ (5/ 8/ 2019).

15- د. حيدر وهاب عبود، مصدر سابق، ص1.

16- الوقائع العراقية، بالعدد: 4726، بتاريخ (26/ 6/ 2023).

17- الوقائع العراقية، بالعدد: 4590، بتاريخ (6/ 7/ 2020).

18- الوقائع العراقية، بالعدد: 4641، بتاريخ (5/ 7/ 2021).

19- الوقائع العراقية، بالعدد: 4610، بتاريخ (4/ 1/ 2023).

أحدث المقالات

أحدث المقالات