23 ديسمبر، 2024 3:56 م

الغلو المذهبي

الغلو المذهبي

مامن شك ، والذي لايختلف عليه أحد ، أن هناك أموراً استحدثت لم تكن موجودة من قبل جعلت الإنسان اليوم يختلف عن الإنسان في الأمس الذي خاطبه أنبياء الله من عشرات القرون . فإنسان القرن الأول غير إنسان القرن الواحد والعشرين بسبب الكثير من العوامل جعلته كذلك . ولكن مبدأ الشرائع السماوية وخاصة الشريعة الإسلامية لايتغير مع إنسان أي قرن ، لأن أحكام وقواعد الدين الإسلامي تلائم الإنسان في أية مرحلة بل هي صالحة لكل زمان وفي أي عصر . فلو تمسك هذا الإنسان بدينه سيجد أن دينه حضاري متجدد . ولو تبين أي خلل فليس ذلك سببه الدين وإنما يرجع إلى خلل في ذات الإنسان نفسه . هذا جانب ، جانب آخر – ليس من المعقول مثلاً – أن يبقى أي واحد منا بعيداً عن أحد مجريات الحياة الخطيرة ألا وهو التطرف المذهبي الديني بحجج واهية تعكس لاأباليتنا أو عدم اهتمامنا على أساس أنها أمور نستبعد حدوثها لأنها خارج حدود عقلنا الديني الإيماني الجمعي ، ونحن (ربما) نطفوا فوقها وقد تنفجر من تحتنا في أية لحظة وبعدها نصبح نحن والوطن في خبر كان لاسمح الله.
إن على رجال الفكر والصحافة أن يدركوا أنهم لو وقفوا جميعاً ضد هذا التطرف فسيكون لهذه الوقفة أثرها في إنقاذنا وإنقاذ مستقبل الأجيال القادمة . فالتطرف يمكن أن يطول أفراداً هنا وهناك معدودين ، ولكن لايمكن لرصاصاته أو عبواته الموقوته أن تطول الجميع خاصة عندما يقفون في وجهه وقفة جادة وجماعية.
من هذا المنطلق أتناول مسألة التطرف المذهبي الديني في جانب منه مايتعلق بالأمور المذهبية الاعتقادية الدينية الذي بدأت تواجهنا اليوم ونحن في هذا الظرف القاهر والشائك والمعقد . والأمور المذهبية الدينية هذه تجعلنا ننظر للناس بشكل عام فرقاء متباينون بالنسبة لمذاهبهم ودينهم وحتى بالنسبة لمعتقدهم السياسي.
فكما هو معروف للبعيدين عن التزمت والتعصب من أن التطرف والغلو والمبالغة في تسفيه الرأي الآخر في أي مجتمع هي مظاهر عجز يلجأ لها المتطرفون والمغالون لتحاشي كشف هذا العجز لديهم ، العجز عن الإقناع ، والعجز عن الإتيان بالحجة القوية . فمن كانت حجته قوية ويستند على الحق وينطلق من الحقائق الراسخة لايحتاج إلى أساليب مرفوضة لإثبات عدالة قضيته . والجماعات المتطرفة والمغالية في التحدي لكل من يختلف معها في الرأي تسيء إلى قضاياها لأنها بمواقفها هذه تثبت أنها – أي قضاياها – ليست من القوة بحيث يمكن التسليم بصحتها أو الاقتناع بأهدافها ، وهي أينما وجدت في العالم لاتملك من القناعات ومنها القناعات الذاتية ربما ما يجعلها تلجأ إلى الحوار الهادئ الرزين وهو الأجدى في مواجهة الرأي الآخر مهما بعدت شقة الخلاف ومهما تناقضت وجهات النظر.
ومع أن الحضارة استطاعت عبر سلسلة من التجارب الإنسانية أن تهذب الإنسان وأن تعرفه على أساليب أرقى للحوار . لكن بعض المجتمعات لازالت تفرز بعض الطفيليات التي تتكاثر في الأجواء الموبؤة بهواء فاسد وغذاء مسموم . فإذا تنافست رؤوسها الشيطانية لم تجد أسلوباً أجدى من التطرف والغلو لإثبات وجودها في مجتمع متحضر يرفض كل مايتنافى مع حرية الإنسان وكرامته ومعتقده الديني الصحيح.
وخطورة مثل هذا التطرف ، أنه يتحول إلى أداة تخريب عند سنوح أول فرصة . فكل الحركات التخريبية في التاريخ بدأت بالتطرف الذي يرفض الحوار مع الرأي الآخر وتكون النتيجة أن يدفع المجتمع ثمناً باهضاً لما ينجم عن أي حركات تخريبية مغالية ، مما يستوجب من السلطة في أي مجتمع اجتثاث هذه النتؤات المتطفلة التي تظهر على سطح المجتمع . ومادامت هذه الجماعات قد اختارت جانب التطرف والتزمت ، فالحل الأمثل هو تقويم دورها والتعامل معها بنفس الأسلوب وبلارحمة ، لأن تجاهلها سيتيح لها فرصة النمو وهو نمو يشبه السرطان في جسم المجتمع.
إن ظهور مثل هذه الظواهر الشاذة في أي مجتمع لايعني فقط فقدان الرقابة الصارمة ولكنه يعني أيضاً نجاح المخططات التي ترسمها الدوائر المشبوهة في الخارج لزرع نوازع الشر وزعزعة إيمان الشعوب بدينها ووطنيتها.
إن هذه الظواهر الشاذة مؤشر خطير على وجود خلل ما في البنية الاجتماعية نتجت عن ضعف الإيمان وفقدان الثقة بالنفس ، وهما عاملان استطاعت الدوائر المشبوهة زرعها في بعض المجتمعات النامية/المتخلفة بهدف تحطيم كيان هذه المجتمعات ليسهل فرض السيطرة عليها واستغلالها بشكل دائم . إنها خطيئة لاتعني سوى الدمار للمجتمع ، أنها قضية وطن يكون أو لايكون.
وقانا الله التطرف وحمى وطننا العراق ومجتمعنا المسالم بعين رعايته من كل متطرف مكروه.

[email protected]