23 ديسمبر، 2024 10:52 ص

الغزو الثقافي ومسؤوليتنا إزائه 

الغزو الثقافي ومسؤوليتنا إزائه 

الحديث عن الغزو الفكري والثقافي ليس ترفاً فكريا ولا محاولة لسبر اغوار المستقبل واستشراف مكنوناته ، بل هو ضرورة تستدعيها حساسية المرحلة وحجم الاختراق الذي نتعرض له بصورة شاملة ، والأساليب الماكرة من قبل الاخر والذي هو ليس بالضرورة عدواً تقليدياً لنا ، فهناك ضمن الجهات التي باشرت مشاريع غزوها الثقافي والفكري في العراق جهات صديقة لحساب قومية ما  او ديانة أو حتى طائفة بعينها  ، وبالمحصلة فأن العراق تحول الى ساحة لصراع الغزاة الثقافيين كما هو محل للصراع بين القوى الدولية والاقليمية ، والعراقيون كالعادة كانوا ضحية وهدف لهذه الغزوات المختلفة والمتعددة دون أدنى مقاومة ، وربما كانت الارضية الخصبة في العراق نتيجة طبيعية للصراع السياسي القومي والطائفي ، او التعددية التي تتميز بها التركيبة  الاجتماعية ، بالإضافة الى العوامل المساعدة الاخرى كالإرهاب ومضاعفاته والفقر والفساد وغيرها   .
لا يستطيع أحد انكار معالم الغزو الثقافي والفكري الشاخصة والحاضرة بقوة في المشهد العراقي على كل الاصعدة والمستويات ، وربما استطاع الغزاة ومن خلال اجندتهم الفاعلة والمتعددة من اختراق المجتمع واحتلاله بصورة واسعة جداً الى درجة أهلتها لأن تكون متحكمة بقطاعات وشرائح كثيرة من الشعب العراقي الذي باتت اليوم العديد من مكوناته متأثرة الى درجة القداسة بأصنام التغريب الثقافي وبضائعه الرخيصة التي ترغب الناس جميعا بالانحراف الفكري والثقافي والاخلاقي والاجتماعي ، وتدعو للتمرد على كل القيم والعقائد والمبادئ .
لذلك بات التصدي للغزو الثقافي والفكري واجب عيني وليس استحبابي بحكم هذه الهيمنة والسيطرة  للغزاة واجندتهم التي باتت تحكم المشهد العراقي ، والمواجهة الاستباقية هي الخطوة التي ننطلق منها في الصراع مع الغزوات التي نتعرض لها .
 أن أسلوب الممانعة المجتمعية أصبح اسلوباً هرماً وسقط في ظل موجة التيارات التي عصفت بالمجتمع من كل حدب وصوب ، وبالتالي فأن اسلوب المواجهة هو السلاح الانفع والاكثر فاعلية في خضم هذه الصراعات الجارية والمخططات الشيطانية التي اعد لها للمنطقة عموما والعراق خصوصا وتم الشروع بتنفيذ بروتوكولاتها بأريحية بعد وجد الغزاة الارض خصبة والثغرات متعددة والمقاومة والممانعة شبه معدومة من طرف المجتمع ومؤسساته المتعددة .
المرجع اليعقوبي في خطابه المعنون بـ (المواجهة الاستباقية للغزو الثقافي) حث المفكرين والمثقفين المؤمنين الى ضرورة التفكير بأسلوب المواجهة في الصراع مع الغزو الفكري والثقافي ، وركز على ان يكون زمام المبادرة بأيديهم للدعوة وايصال فكرنا وثقافتنا الاسلامية الاصيلة والمتمثلة بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) للآخرين ، وأن يكون الانطلاق والانفتاح والحوار مع الاخر وفق الاليات التي تضمنتها الآية الكريمة ( أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) ، وبذلك نضمن على الاقل الصمود امام التيارات الغازية ونحاول التوغل والتأثير بالآخر عبر أيصال المنظومات الفكرية والثقافية والاخلاقية والعقائدية لأهل البيت (عليهم السلام) والذي يمثلون الاسلام النقي الاصيل وبذلك نكون قد ساهمنا اولا بالذود عن الدين الاسلامي ورفع المظلومية التي يتعرض لها  نتيجة التشويه والتحريف لمنظومته القيمية ومفاهيمه ورسالته السمحاء من قبل خوارج العصر واتباع مدرسة بني أمية الوهابيين وغيرهم من التيارات التكفيرية المتطرفة المنحرفة ، بالإضافة الى الدعوة المباشرة للآخرين الى التعرف على الاسلام ومفاهيمه المباركة والنهل من حياضه المترعة بالخير والعدالة والانسانية والتسامح والاصلاح .
في ضوء هذه المعطيات فأن اسلوب المبادرة او المواجهة الاستباقية اصبح ضرورة ملحة وحاجة اساسية للحفاظ على معالم الشريعة والقيم الاجتماعية والثوابت الاخلاقية من الغزوات المتعددة التي شهدناها ولا زالت تعصف بمجتمعنا دون ان يكون هناك اي حراك فعلي للتصدي لها ومواجهتها فكريا وثقافيا بعيدا عن الاساليب القمعية والمتطرفة الاخرى التي يستخدمها الجهلة والتي تساهم في تعزيز وتكثيف ونشر الافكار المنحرفة والشبهات والضلالات بدل معالجتها واستئصالها .
أن مواجهة الغزو الثقافي والتخطيط لإحباط مشاريعه ومن ثم الانتصار عليه يتطلب تفكير الجميع في آليات مواجهته ويستدعي كذلك تكاتف الجميع افرادا ومؤسسات للوقوف امام مشاريع التلاعب بالعقول وبرامج غسيل الادمغة التي تنتشر اليوم بقوة على الساحة العراقية ويتم ذلك عبر كشف وفضح المشاريع ومن يقف ورائها وتهديم أسسها ، ونقصد بالجميع المؤسسات المسؤولة عن المجتمع سواء كانت حكومية او اجتماعية او دينية او اعلامية او اكاديمية … الخ .
وينبغي ان يكون دافع المتصدين للغزو الثقافي هو المشاركة دفاعاً عن معالم الشخصية العراقية وهويتها الاسلامية الاصيلة من الثقافات الطارئة والدخيلة والتي تتسم عموما بالسلبية على مستوى الممارسة والاهداف والنتائج التي تتطلع اليها والتي لا تصب في مصلحة الدولة والمجتمع .
ان مراعاة الحفاظ على الهويات الثقافية والدينية والاخلاقية والاجتماعية تتطلب أيضاً عدم التورط من الجميع في الوقوف ضد مؤسسة معينة لتصفية الخلافات وتحقيق المصالح من خلال تشجيع ألتمرد على التعاليم الدينية او الممارسات الاخلاقية ، لان الهوية الثقافية للشخصية العراقية هي مزيج مترابط من تلك المكونات ، وان محاولة الفصل فيما بينها سوف يؤدي الى أضعافها وتخلخل تماسكها ، وسوف يكون كذلك بمثابة التورط بغباء وبلاهة في المشاركة بعملية الغزو الثقافي وتعزيز وجوده وتحقيق اهدافه .
ان التصدي للغزو الثقافي والفكري مسؤولية ومهمة جسيمة تتطلب تظافر الجهود من جميع المؤسسات المعنية بالمجتمع وهويته الدينية وقيمه الاجتماعية والاخلاقية ، وكل المؤسسات مطالبة بأخذ دورها في هذه المواجهة التي تحتاج للمضي بها والارتقاء بمضامينها الى تصدير ثقافتنا وفكرنا الاسلامي ومعالم هويتنا الوطنية الى الانسانية عموما والدول التي تستهدف غزونا خصوصاً لعرقلة أي محاولات ومخططات من قبلها للاستمرار في مشاريعها الهدامة للشخصية العراقية على صعيد الفرد والمجتمع ، وجميع مؤسساتنا العلمية والدينية والتعليمية والثقافية عليها ان تستعيد زمام المبادرة للحفاظ على المجتمع وتنمية ممانعته ضد مظاهر الاستغراب وانماطها السلوكية من خلال استشعار افراد المجتمع لأهمية هويتهم الدينية والوطنية والثقافية .