18 ديسمبر، 2024 9:58 م

الغزل في شعر ربيعة الرقي

الغزل في شعر ربيعة الرقي

إن الغزل في الشعر العربي يتمتع بمساحة كبيرة جداً , ولعل اكثر شيء يستسيغه المتلقي , هو الغزل لأنه يلامس عمق الاحساس ويداعب المشاعر ويفصح عن العواطف المشتركة بين الحبيب ومحبوبته .. ولا تجد شاعراً يخلو شعره من الغزل اذا لم يكن جلُ شعره غزلاً , وكانت العرب سابقاً لها رؤية , انه لايقول الرجل في المرأة شعراً , غزلاً كان أم نسيباً الا اذا كان يعشقها , وتوجد مقولة مشهورة عن المرأة (الشاعرة اذا عشقت تغزلت). وهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الامزجة للطبائع كما يقول العقاد . وأعتقد الجميع يعرف أن الغزل هو نتاج عاطفي واستعداد نفسي وفطري , لذا نحن نراه عند الجاهل والعالم والمراهق والكهل الكل على حد سواء … والغزل في شعر العرب كان على اوصاف جمة فمنهُ الرحيل والفراق والهجران وألم المشيب , وهو يصف عواطف نفس الشاعر واهواءها وشجونها , ولاتجد في التراث الشعري العربي ديواناً واحداً يخلو من الغزل , وبعض الشعراء وإن لم يشتهروا بالغزل ولكنهم كتبوه بذوق مرهف وحس جمالي مقتدر , والبعض الاخر كرس جميع شعره للغزل ويتغلب طابع الغزل على جميع مواضيع الشعر عنده , ومن هؤلاء الشعراء ربيعة الرقي , يتميز شعر ربيعة بسهولة التعبير وحلاوة التلوين ولطافة الوقع وصدق النية وسلامة الذوق والنزعة الكاملة الى الابداع…وجه دعبل الخزاعي سؤالاً لمروان ابن ابي حفصة قال له , من اشعركم جماعة المحدثين ؟. قال اشعرنا اسيرنا . قال ومن اسيركم ؟. قال ربيعة الرقي الذي يقول :
لشتان مابين اليزيدين في الندى ….يزيد سليم والاغر ابن حاتم .
ولعلني احسب أن القارئ الذي يقرأ هذه الرواية التي ذكرتها آنفاً , سيخامره الظن بأن اخبار الشاعر قد ملأت الكتب وأخبار الشعراء , ولكن ليس الامر هكذا فالرجل لايذكر الا ماندر …. ربيعة الرقي ولد في مدينة الرقة في عام( 120 هـ). وهو من الشعراء الذين تجمعت في شعرهم اكثر اتجاهات الشعر العربي , فـتجد في شعره الحكمة ومرةً اية قرآنية وتارةً مثل.. ينقل عنه , انه اراد ان يصور ظلم احدى النساء فلم يجد انسب من المثل ( أظلم من ذئب) فقال :
ظلمتٌ كذئب السوء اذ قال مرة …لسخل رأى والذئب غرثان مرمل
أأنت الذي في غير جرم شتمتني …..فقال متى اذا قال ذا عام اول .
ويوجد مثل عربي يقول (لو ترك القطا لغفا ونام ). فقال في صاحبة له :
ويا ليت الحمام مسخراتٌ…لنرسل في رسائلنا الحماما
لعل حمامةً تهدي إلينا…كتاباً منك نجعله إماما
وما ذنبي وحبك هاج هذا ….ولو ترك القطا لغفا وناما .
وكثير من هذه الشواهد التي لو ذكرناها لطال المقام بنا…المتتبع لشعر ربيعة الرقي يجد ان الدرجة الاساس في شعره , الغزل , ويتغلب على جميع مواضيع الشعر عنده , فإنه حسب ماينقل , كان كثير التعلق بالنساء وبالخصوص الجواري , اذ كان يكتب من الغزل العذب الرقيق الذي يدخل الى القلب مباشرة , حتى عده كثيرون اشعر الشعراء غزلاً في زمانه ومنهم ابن المعتز يقول (أما شعره فانه اشعر اهل زمانه جميعاً وما أجد اطلع ولا اصح غزلاً منه ). ويقول ايضاً (كان ربيعة اشعر غزل من ابي نؤاس لأن في غزل ابي نؤاس برداً كثيراً وغزل هذا سليم سهل عذب ). وربيعة الرقي كان يتغزل باكثر من امرأة , واشتهر بحب النساء جميعاً وهذا النوع نجده دائما ملولاً لايصبر على طعام واحد , وتوجد ابيات في هذا الموضوع , يقول :
قالت فؤادك بين البيض مقتسم ….ما حاجتي في فؤاد منك مقتسم
أنت الملول الذي استبدلت بي بدلا .. قصرت بي وشربت اللؤم بالكرم .
ولم يتوقف ربيعة الرقي على غزل امرأة بعينها بل تعددن في غزله اسماء وهن (رخاص , وداح , وغنمة , وليلى , وسعاد , وعثمة ). ومن اللافت للنظر انهن جميعاً في بعد عنه , حيث كانت عثمة من مرار (قرقيسياء) ويقال انها اول جارية تغزل بها وكتب عنها الكثير وكم تمنى وهو معها ان الظلام لايجلو حتى يشفي غليله منه فيقول فيها :
أحِب حديثها وتحبُّ قربي…وما إن نلتقي إلا لماما
فيا ليت النهار يكون ليلاً….وليت الصبح لا يجلو الظلاما
وكل الحب لغو غير حبي…فقد أردى الحشا وبرى العظاما .
اما رخاص فكانت عراقية (كرخية) قال فيها ابيات حينما لم ينل منها شيئاً وسدت الطرق بوجهه , يقول:
ورخاص الكرخ ظبي …… لم انل منه افتراضي
يا رَخاصاً يا رخاص ….الكرْخ يا ذاتَ العِقاص
والثنايا الغُرِّ كالبرق…تلالأ في النشاص .
وكذلك كانت غنام عراقية , حيث ينقل عنها ابيات جميلة تتسم بتجربة ممتعة وعزف موسيقي رائع , متميز بحسن نظمه ونظامه.
ولم اهجرك مقلية ولكن …حللت عراقكم وحللت شاما
عديني أن أزورك إنّ داري … و دارك لاأرى لهما التياما
و إنّ جميع أهلك عنفوني … و لاموني و لم أطق الملاما
واما داح يبدو انها كانت نازحة عنه , يقول فيها :
ليت لي رسلاً من …..الجن اليها والرياح
تبلغ الحاجات عني …..ثم تأتي بالنجاح .
وكان كثير الحلم بسعاد وكانت تراسله رسائل شوق كثيرة :
زارتك سعدى وسعدى منك نازحة ….فارقتك وما زارتك من امم
اهلاً بطيفك ياسعدى المللم بنا …..طيف يسير بلا نجم ولا علم
ماأكذب العين والأحلام قاطبة…..أصادق مرة في وصلها حلُمي‏ .
ان هذه الابيات تدل على التدفق الابداعي وجمالية اللغة والصورة الشعرية المعبرة التي يتمتع بها ربيعة, كما انها ممتلئة بروح البساطة وقريبة من اللغة اليومية التي يستخدمها الناس انذاك .
اما ليلى فقد كتب عنها كثيراً , ففي قصيدة له يبدو واضحاً تأثره بمجنون ليلى , وفي هذه الابيات ينقل الشاعر مشاعر جياشة ونفساً شعرياً متدفقاً وجميلاً :
خليلي هذا ربع ليلى فقيدا ….بعيركما ثم ابكيا وتجلدا
قفا اسعداني بارك الله فيكما …..وان انتما لم تفعلا ذلك فاقعدا
والا فسيرا واتركاني وعولتي ….أقل لجنابي دمنة الدار اسعدا
فقالا وقد طال الثوى عليهما …..لعلك ان تنسى وان تتجلدا
وفي غزله ايضاً ملامح من منهج الذين سبقوه وعاصروه مثلا في قصيدة له يسير على خطى عمر ابن ابي ربيعة في اسلوب الحوار والقصة وانطاق المرأة والكلام على لسانها .
الا حبذا ليلى واترابها الالى ….وعدنك من ليلى ومنهن موعدا
فأقبلن من شتى ثلاثا وأربعا ….وثنتين يمشين الهوينا تأودا
يطأن مروط الخز يلحفها الجنى ….ويسجن بالأعطاف ربطاً معمدا
فلما التقينا قلن ..اهلاً ومرحباً …تبوأ لنا بالابطح السهل مقعدا .
وقد كان يدعي على طريقة ابن ابي ربيعة أن الغواني كنّ يترصدن به ويتواصين بحبه وينظرن أليه اينما يسير .
والغواني مغويات ….مولعات باقتناصي
قد تواصين بحبي ….. حبذا ذاك التواصي .
ومن جميل ماينقل عنه في الحب ابيات رائعة جدا حيث يحاجج الذي يلومه في الحب ويقول له انه سقم لا صحة معه ألا نسمة من حبيب تكون هي الدواء .
ياليت من لامنا في الحب جربه …..فلو يذوق الذي قد ذقت لم يلم
الحب داء عياء لادواء له ……..الا نسيم حبيب طيب النسم
او قبلة من فم نيلت مخالسة …..وما حرام فم الصقته بفم .
وتوجد له قصيدة في محبوبته سعاد فيها بعض عناصر التشويق الدرامي وهو ما استخدمه الذين سبقوه وفي هذه القصيدة , ربما يختلط الامر علينا بينه وبين عمر ابن ابي ربيعة .
لاقيت عند استلام الركن غانية … غراء واضحة الخدين كالصنم
مرتجة الردف مهضوم شواكلُها … تمشي الهوينا كمشي الشارب الثلمِ
تقول قيناتها والردف يقعدها … من خلفها قد أتيت الركن فاستلمي
فاستلمتْ ثم قامت ساعة فدعتْ … فقمت أدعو ولولا تلك لم أقم
حتى إذا انصرفت سلمت فالتفتت … فقلت: إنك من همي ومن سدمي
قالت: ومن أنت؟ قلن التابعات لها … هذا ربيعة هذا فتنة الأمم .
ويحتوي غزله ايضاً على خصائص من الامويين العذريين وشعراء الغزل العفيف من معاصريه مثل العباس بن الأحنف كالتعلل بالأماني والوعود والتعلق بألامال فمن تعليل النفس بالوعد والمنى قوله في ليلى
أعلل نفسي منك بالوعد والمنى … فهلاّ بيأس منك قلبي أُعللُ
وموعدك الشهد المصفى حلاوةً … ودون نجاز الوعد صاب وحنظل
وأمنح طرف العين غيركِ رقيةً‏….حذار العدى والطرف نحوك أميل .
وايضاً له ابيات جميلة يتمنى قبل موته ان يخلو بحبيبته وتتجلى في هذه القصيدة كل معاني الابداع .
يا ليتني قبل موتي قد خلوت بها….. على الحشيّة بين السّجف والنّضد.
قد وسّدتني اليد اليمنى وبارَقَهــا…. ودُمْلُجٌ العضد اليسرى على عضد
في كلّ يـوم لنا إلماحة بكم…وليت داركِ من داري على صدد .
وله ابيات في عثمة محبوبته , جميلة جدا , وأن كان فيها بعض المبالغة , انه يصف بقوله جمالها ويعبر عنه بطريقة رائعة حيث يقول انها فوق جمال المخلوقين وأذا كانت النساء تملك أمراً فـستكون اميرتهم لما تحمله من جمال ساحر وخلاب تقف له النساء اجلالا وتقديرا .
أعثمة اطلقي العلق الرهينا ….بعيشك وأرحمي الصب الحزينا
تعلق زائراً لك فارحميه… فقد أورثتِ زائركِ الجنونا
ولما أن رآك الناس قالوا…. تعالى الله رب العالمينا
فقد أعطاك ربك فاشكريه …. جمالاً فوق وصف الواصفينا
إذا أقبلت رعت الناس حـسناً …. وإن أدبرت قيّدت العيونا
ولو أنّ الملوك رأوك يوماً …. لخرّوا من جمالك ساجدينا
ولو أن النساء ملكن أمراً …..لكنتِ إذاً أمير المؤمنينا .
هذا القليل الذي نقلناه من جميل الغزل الذي كان يتمتع به ربيعة الرقي والواضح في هذا الشعر , سهولة اللفظ وحلاوة الوقع على السمع , وسلاسة الاسلوب الشعري , ومما يقال في هذا انه السهل الممتنع وهو لايكون الا لشاعر عظيم لايحبذ غليظ الكلام واللفظ الصعب , فيكتب الشعر من غير تصنع او تكلف كما كان البعض ممن عاصروه من الشعراء ولعل هذا الذي جعل ابن المعتز يجعله افضل شعراء عصره وهذا الكلام لايأتي مجاملة او تملقاً انما صدر من ناقد كبير ومدرسة نقدية قديمة وكتابه طبقات الشعراء ذائع صيته واشهر من ان يذكر…ويبقى غزل ربيعة الرقي له لون خاص وجاذبية متفردة من حيث سهولة الكلمات ورقتها ..ومن الحق أن نتكلم ونقول .. ان ربيعة الرقي ذو شاعرية قل نظيرها , وصاحب لغة شعرية جديدة لم تكن معروفة في ذلك الوقت , واعتقد ان هذه اللغة التي مهد لها ربيعة الرقي توحي بولادة عصر ادبي متجدد وتأكد هذا التلميح باتضاح صور التجديد الشعري في العصر العباسي .