23 ديسمبر، 2024 12:53 ص

الغروب في محطة القطار

الغروب في محطة القطار

كنت مولعاً بالرسم في طفولتي وكنت أتساءل بداخلي عن قدرة الفنان على نقل المشهد كما يشعره إلى الناس بطريقةٍ تميزه وتشبه إحساسه به، وأذكر تماماً أن أول صورةٍ استفزتني (لأحاول) محاكاتها كانت لقطارٍ يوشك على الرحيل عند الغروب، فقد كان لصور ومفردات السفر والإغتراب وقعٌ خاص علي بحيث تجذبني لأتماهى معها كجزءٍ أصيل من حكايتي التي كونت شخصيتي ومشاعري فيما بعد، ولتصبح هذه الصورة اختصاراً هاماً لفلسفة الحياة من (وجهة نظري) كشخصٍ عايش الغربة بأوجهها المتعددة..

ولكنني بمرور الزمن وجدت أن رمزية هذا القطار لا ترتبط وحدها بحالاتٍ خاصة قدر ارتباطها بالإنسان نفسه، فهو منذ ولادته في حالة سفرٍ وترحال بين الأماكن والوجوه والسنوات التي يمثل كلٌ منها محطةً في رحلته، فينضم إليها البعض فيما يغادرها البعض الآخر، تنقضي الكلمات والضحكات والوعود، تتهاوى الأقنعة وتتجذر القناعات، تتساوى الأعذار في حضرة الأقدار وتبدو كل الفروقات واهية عندما يطبع الزمن وشمه على أرواحنا ليميز صادقها من كاذبها فينقشع الضباب لتتضح الرؤية، وتختبر المبادىء والشعارات فيما تظل المواقف والمشاعر وقلةٌ من أصحابها حتى النهاية، وندرك أن الحكايات التي ضحكنا منها وكبرنا برفقتها كانت ترى الحياة من منظورٍ أعمق من تلك النظريات التي انقلب عليها معظم من آمن بها وروج لها بعد أن خذلتهم أو لم تعد تناسب (متطلبات المرحلة) فغيروا رحلتهم نحو وجهةٍ أخرى..

وبرغم أن العطاء والمشاركة هي أنبل ما نتعلمه في صغرنا إلا أن الواقع بات يتطلب في كثيرٍ من الأحيان شيئاً من التحفظ والإنكفاء، إيثاراً للسلامة وحباً للذات التي يظل حبها أساس كل حب حتى لو غلبّنا الأنا (رغماً عنا) دون أن نسمح لها بالتغول على إنسانيتنا، فوسط زحام الركاب نتعرف على حقيقتنا تماماً كما نتعرف على الآخرين فنتعرى من الأوهام ونضعها جانباً، ونختبر صمودنا أمام (أشجار التفاح) التي تزدحم بها طرقاتنا وتتزايد بعد كل محطة لتؤكد أو تنفي ما كان من قبلها، وتعنون مشوار كلٍ منا بما اختار لرحلته من ملامح.. تميزها، تزينها، تخلدها في القلوب وتحفرها في الذاكرة حتى بعد مغيب الشمس وحتى بعد أن يتوقف القطار….