ينبهر المواطن العراقي، بإنجازات دول أخرى، بعد تعثّر تجربة التنمية والاعمار في بلاده، وكلما زار بلدا محدثا، مستقرا، ماثله ببلده في مستويات الخدمات، ومسارح التمدن.
ومهما اختُلِف على الأسباب التي أدت الى الإخفاق، لكن الأغلبية المطلقة، تتفّق على النتائج.
والانبهار خالِجة طبيعية، وتعبير عن السمو الى الأفضل، لكنه لدى الكثير من العراقيين، مقرون بالوجوم، لا الأمل،
نتيجة النكبات والصدمات المتتالية التي حلّت ببلادهم.
مظاهر المدنية، المادية، والسلوكية، هي التي تصنّف البلدان، وفيما إذا نجحت في استقلال قطار الحضارة، ام انها لازالت تنتظر في محطة، لا تصل العربات اليها ابدا.
مصطلح الحضارة هو الأهم اليوم، من بين جميع المصطلحات في العلوم الاجتماعية الحديثة، ويُقصد بها أولا إنجازات الحاضر، ثم التسلسل الهرمي التاريخي للأحداث، نزولا الى الماضي، لكنها لدى العراقي تؤشّر على الماضي فقط، بعد توقّف عقارب ساعته عند حضارات سادت ثم بادت من آلاف السنين، من بابل الى سومر وآشور، متغافلا عمدا أو جهلا، عن قياس مستويات التحضر لديه في الوقت الحاضر، وفيما اذا مجتمعه قد نجح في استعادة بريق تلك الحضارات.
يجب أنْ توفر مفردة حضارة، منظورًا جديدًا يعي الانسان فيها دوره الحاضر، لا الماضي، لكي يكون دافعا لتوليد جو من التفكير النقدي الذاتي.
التحضر مرتبط بالسلوك قبل الإنجاز، فثمة دول أرسلت اقمارا صناعية، وصنعت سيارات، وارتقت في البرمجيات مثل الهند، لكن الكثير من شعبها غير متحضر في جوانب العلاقات الإنسانية والطبقية، ونظام العمل والعادات والتقاليد الاجتماعية.
ينطبق الامر على دول مثل العراق، وحتى الصين، ففي هذه الدول، تجد على سبيل المثال لا الحصر، طريقة ذبح الحيوان، خالية من الرحمة، والفقراء يقبعون تحت ظلال البنايات الشاهقة، فيما لا تجد ذلك على الاطلاق في الدول المتحضرة حقا، مثل أوربا الغربية.
هذا لا يمنع القول، من انْ صنّاع الحضارة المعاصرة، ارتكبوا الأخطاء، التي سببتها الغطرسة الاستعمارية، لكنهم اعترفوا لاحقا بان ذلك لم يكن أخلاقيا.
الأمم المتحضرة التي قطعت شوطا رائعا في بناء مجتمعات عصرية متطورة، لا تعبد الماضي، ولا تحن اليه، فما حصل من أحداث، ونقاط قوة وضعف، كان له أسبابه، وظروفه، فلا تجد في الادبيات الغربية من يتأسف على مستعمرات تحررت، ودول كانت تحت قبضة اوربا، باتت اليوم مستقلة، على النقيض من المفاهيم التي تتحكم مجتمعاتنا العربية،
التي لازالت الى الان تحزن وتتألم لسقوط الاندلس.
الكثير من الخطابات المهيمنة اليوم تتحدث عن الماضي العظيم المثالي، على شاكلة “ملكنا هذه الدنيا قروناً، وأخضعها جدود خالدونا”، وهو في واقعه هروب من الحاضر البائس، نحو سراب لا يوصل الى طريق، ولا يبني مجتمعا.
بدلا من الاعتراف، بجدوى حضارة العصر، لما أنجزته من ماديات ومثاليات، نهاجمها، ونعتبر ماضينا أفضل منها، بتأثير الخطابات التي اوهمتنا، بان الماضي هو كل شيء.