المقدمة
العلاقة بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي من أعقد العلاقات في التاريخ المعاصر، فهي ليست صداقة صافية ولا عداءً مطلقًا، بل مزيج من صراع مصالح، وتراث تاريخي مشحون، وتلاعب سياسي. كثيرًا ما يتردد سؤال جوهري: هل هناك عداء غربي متأصل للعرب والمسلمين؟ أم أن الأمر مجرد سياسة مصلحية تحكمها الحاجة الاقتصادية والجيوسياسية؟
لفهم ذلك، لا بد من مقاربة شاملة تشمل الأبعاد التاريخية، الفلسفية، والسياسية، مع النظر إلى مستقبل هذه العلاقة في ظل التحولات العالمية الراهنة.
—
أولاً: الخلفية التاريخية والفلسفية للعلاقة
الحروب الصليبية (1095–1291) زرعت أولى صور “المواجهة الحضارية” بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي. ورغم أن دوافعها كانت سياسية ودينية، إلا أنها أسست لفكرة “الآخر المسلم” كتهديد دائم.
الفكر الاستشراقي في القرنين 18 و19 (كما بيّن إدوارد سعيد) رسّخ صورة مشوهة عن الشرق باعتباره فضاءً جامدًا ومتخلفًا يحتاج إلى “الإدارة الغربية”.
الاستعمار الأوروبي للعالم العربي والإسلامي لم يكن مجرد احتلال عسكري، بل مشروع فلسفي لتفكيك البنى التقليدية والسيطرة على الموارد. فكرة “عبء الرجل الأبيض” التي روّج لها مفكرون غربيون كانت محاولة لتبرير هذا التوسع باسم “الحضارة”.
—
ثانياً: توظيف الغرب للأنظمة العربية والإسلامية
السياسة الغربية تجاه العالم العربي والإسلامي غالبًا ما اتسمت بـ البراغماتية:
إيران (الشاه): كانت حليفًا استراتيجيًا للغرب حتى سقوطه 1979، وحين انتهى دوره تُرك لمصيره.
العراق (صدام حسين): استُخدم كأداة ضد الثورة الإيرانية في الثمانينيات، ثم أصبح هدفًا للغزو والتدمير في 2003.
ليبيا (معمر القذافي): من منبوذ في الثمانينيات، إلى شريك اقتصادي بعد 2003، ثم أُطيح به عسكريًا 2011.
هذه الشواهد تكشف أن العلاقة بين الغرب وبعض القادة العرب والمسلمين لم تُبنَ على الوفاء أو الشراكة الاستراتيجية، بل على المصلحة المؤقتة، وحين ينتهي الدور تُستبدل الأدوات.
—
ثالثاً: الإسلاموفوبيا كغطاء أيديولوجي
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، تصاعدت موجات الإسلاموفوبيا في الغرب، حيث جرى ربط الإسلام بالعنف والإرهاب.
هذا الخطاب لم يكن بريئًا، بل استُخدم لتبرير التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق، ولفرض وصاية سياسية على المنطقة تحت شعار “محاربة الإرهاب” أو “نشر الديمقراطية”.
الإعلام الغربي لعب دورًا في تكريس هذه الصور النمطية، رغم وجود أصوات أكاديمية وفكرية تنادي بالحوار الحضاري.
—
رابعاً: التعاون والازدواجية
الغرب لم يكن عدوًا مطلقًا، بل شريكًا اقتصاديًا وعسكريًا في بعض الحالات:
الخليج العربي: علاقات متينة قائمة على النفط والاستثمارات والسلاح.
مصر والأردن والمغرب: شركاء في ملفات الأمن الإقليمي والتطبيع مع إسرائيل.
لكن هذه الشراكات لا تُلغي حقيقة أن الغرب ينظر غالبًا إلى المنطقة من منظار المصلحة لا المبادئ، فيضغط في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان حين تخدم أجندته، ويتجاهلها حين تتعارض مع مصالحه.
—
رؤية مبكرة حول الصين والنظام الدولي الجديد
في خضم التحولات الكبرى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، كتبتُ في صحيفة العرب اللندنية مقالا بعنوان “النظام الدولي الجديد”. وقد شددتُ فيه على أن الدول العربية والإسلامية مطالَبة بتغيير بوصلتها الاستراتيجية من الغرب – الذي أثبت التاريخ أنه لا عهود ولا وعود له – إلى الصين باعتبارها القوة الصاعدة القادرة على إعادة التوازن للنظام الدولي.
ولعل ما يزيد هذه الرؤية رسوخًا أن العديد من الأصدقاء ما زالوا يتذكرون تركيزي على هذا الموضوع في كلمة ألقيتها في مؤتمر أقيم في لندن آنذاك، حيث أكدت أن التوجه نحو الشرق ليس خيارًا ثانويًا بل ضرورة تاريخية.
ولا يسعني هنا إلا أن أستذكر فضل الشاعر والمفكر الجزائري أزراج عمر، الذي كان محرر صفحة “صباح الخير يا عرب” في جريدة العرب اللندنية، لنشره هذا المقال ومنحه مساحة فكرية رحبة، بما سمح لأفكاري أن تخرج إلى فضاء النقاش العربي في تلك المرحلة الحساسة.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، يتضح أن هذه الرؤية لم تكن مجرد قراءة ظرفية، بل استشراف مبكر لتحولات كبرى يشهدها العالم الآن مع صعود الصين وتراجع التفرد الغربي.
—
خامساً: نحو نظام عالمي جديد – فرصة للخلاص من الهيمنة
اليوم يشهد العالم تحولات بنيوية تعيد تشكيل العلاقات الدولية:
صعود الصين وروسيا كقوى منافسة للولايات المتحدة.
بروز تكتلات جديدة مثل البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون.
أزمة النظام الليبرالي الغربي بعد الحروب الاقتصادية والأزمات المالية.
هذه التحولات تفتح للعالم العربي والإسلامي نافذة تاريخية للخلاص من الهيمنة الغربية، عبر:
1. تنويع الشراكات الدولية: تقوية العلاقات مع آسيا، إفريقيا، وأميركا اللاتينية.
2. تعزيز التكامل الإقليمي: بناء سوق عربية-إسلامية مشتركة تعزز الاستقلال الاقتصادي.
3. توظيف الثقل الديموغرافي والجغرافي: العالم الإسلامي يمتلك موقعًا استراتيجيًا بين القارات، وموارد طاقة هائلة.
4. بناء مشروع حضاري مستقل: استلهام الفلسفة الإسلامية والعربية في العدالة والتوازن، وربطها بالتكنولوجيا الحديثة والحوكمة الرشيدة.
—
الخاتمة
الخلاصة أن العلاقة بين الغرب والعرب والمسلمين لا تُختزل في “عداء أبدي” أو “تحالف دائم”، بل في توازن مصالح تحكمه القوة. غير أن اللحظة التاريخية الراهنة تمنح شعوبنا فرصة لتجاوز التبعية والانطلاق نحو بناء شراكات ندّية، معتمدين على قدراتنا الذاتية وتوجهنا الواعي نحو الشرق الصاعد.
بهذا فقط يمكن للعرب والمسلمين أن يسهموا في نشوء نظام عالمي جديد يقوم على قطبين أو أكثر، بما يضمن السلم العالمي والتوازن الحضاري. ومن لا يشكر الناس لا يمكنه شكر الرب؛ لذا فإن الاعتراف بفضل كل من ساهم في دعم هذا الفكر ونشره هو جزء من الوفاء الذي يجب أن يرافق أي مشروع حضاري.
—
المراجع
إدوارد سعيد، الاستشراق، نيويورك: بانثيون بوكس، 1978.
برنارد لويس، أزمة الإسلام، نيويورك: راندوم هاوس، 2003.
فواز جرجس، أمريكا والإسلام السياسي، كمبردج: مطبعة جامعة كمبردج، 1999.
رشيد الخالدي، القفص الحديدي: قصة فشل الدولة الفلسطينية، نيويورك: بيكون برس، 2006.
تقارير مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) حول الإسلاموفوبيا (2015–2023).
تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حول الاقتصاد العربي (2020–2024).