الغربة شكلت جاذبية شعرية للمنفيين في عوالم التسطيح الفكري اوالمرحلين عن الوطن والهوية او المكبوتين داخل شرنقة الحدود الذاتية لتنفحهم بمكوناتها الضاغطة ولتنتقل بهم الى الريادة في بث الخزين النفسي والابداعي , ولتساهم هذه الغربة في صياغة الرصيد الفكري بما يؤدي الى رسم خارطة المحنة في سويداء العقل الباطن ,كما شكلت مساحة عاطفية تتلظى من رمضائها مهج الكتاب والشعراء واستطاعت ان تمدّنا بالصور النفسية والتجردية والتشكيلية بما يؤرق القلب ويسجن الحروف على الشفاه .
الغربة عنصر تلفيقي قهري اودّعته الهجرة تارة او العنصر السياسي تارة اخرى ليصوغ من رهافة النفس صورا متكسرة في مرآة الحياة , ويحاول ان يستجمعها لتتوالد منها معاناة انسانية متجسمة بشعور عدم الانتماء ومغلفة بطابع السخط والقلق او رثاء النفس او التجلد بالصبر والوداعة بانتظار المجهول .
الاغتراب هو وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته وبين البيئة المحيطة به بصورة يتجسم الشعورفيها بنوع من التنويم السريري الاكلينكي حتى ليتخيل اليك انه في ازمة روحية او في صراع مع الذات او مع الهوية من اجل تنفيس الطاقة السلبية التي ترسبت في قعر افكاره الملتهبة المتطلعة نحو الافق الازرق .
لدى كل شاعر زوايا في الظل يحاول ان يتمرد عليها مستعينا بالاشارة تارة او بالتلميح تارة اخرى ليستطيع الانفلات من جاذبيتها الفضائية ليكون قد تنفس الصعداء او القى ثقلا قصم ظهره من شدة البحث والعناء والدوران حول الذات .
كثير هو الشعر الذي تفجّرت به أفئدة الشعراء المنفيين في أرجاء هذا العالم المترامي الاطراف وكثيرة هي الهموم التي طرحها ذلك الشعر ولقد مثّل المنفى بتأثيراته الجانبية على الإنسان العربي قضايا المحنة والذكريات والبعد والفراق وحالة الحرمان , والاشد نكاية بالانسان ان يكون المنفى هو ذات الوطن وداخل اسواره المتعالية ,لتنسكب الحرقة اشد مما هو الحال خارج الوطن لانك تشعر بان الجراح هي من نسيج القتل الصامت الذي يمارس عليك دون ان تشعر بانك تمتلك ذرة من الوطن او خيطا من المواطنة .
حقا ان الوطن في كثير من الحالات مغيب عن فيزياء الشاعر رغم ان الوطن حضور وقصيدة وقادة في وجدان ونبضات قلب الشاعر , ولكن الوطن في بعض الاحيان يضيع في متاهات دروب الشاعر الباحث عن مكان يأويه او وسادة يتمدد عليها في عنفوان الليل الشارد .
لم يكن فؤاد عاشوري يشعر انه ابن الجغرافيا التي حشر فيها جسديا دون ارادته بل انه انتماء الى واقع اخر ممتد في مسامات روحه التواقة الى مديات مشرقة في عالم اخر يتجلى في التماعة الحرف وفي انسيابية الصورة لتنتج اتجاها يتدلى من فوهة المعاصرة ولكنه يتواثب مع نبضات الحلم الكبير .
فؤاد عاشوري طير جنوبي مغرد يبحث عن عش الاستقرار في ملحمة تداخل الوطن وغياب سقوف الزمن التي غادرت محطات رئة الحقيقة التي كثيرا ماحاول النفوذ الى مساماتها دون ان يجد ذرة هواء تستطيع ان تسد رمقه الشعري وان تستهوي قريحته المستفزة المتلالئة التي تحاول التوائم مع الوجود والكينونة لحشد الايقاع الشعري والتماهي مع رصيد ايماءة الكلمة وانسيابية الحروف والتصرف بظلال الصورة وانطباعاتها العالية اللهفة والموشحة بالشجون .
فؤاد , مهاجر داخل الوطن الممتد في خارطة وجدانه يحاول ان يلقي بعصا الترحال ولكن دون بقعة ضوء ودون ان يجد مساحة للرقاد على وسادة الامل , انه الوجع المضني الذي يتشكل في خصومات منحاه الارستقراطي وتلاوين الالم الساكن في شحوب الوجه وفي تلافيف المحنة الراكدة في غياهب النفس المتضرعة المتسمرة على خشبة الذكريات .
جميل كل شئٍ في بلادي مراعيها،ربُاها و الوهادُ
سماها،نخلها الزاهي، نداها ثرياها، الثري،النارُ،الرمادُ
لكل رُمَيلةٍ منها و فيها بكل خلية مني ودادُ
صغيراً قد حملتُ هوي بلادي بقلب لايفارقهُ السهادُ
هناك تنوع سريع خلاب في مسامات الحروف وهي ترسم لنا ماهية البلد وجغرافية الوطن , فكل شئ اخاذ في هذا النموذج الوجداني حتى النار الحارقة وحتى الاشياء عندما تتحول الى كومة رماد , بل ان الرميلات هي خلايا لهاجس الشاعر وهو ينثرها كما ينثر الورود ,كما انها شغف مبطن بالذكريات وهي ايماءات للانجذاب العضوي والتكامل الاسري مع روح الوطن ومع زوايا الهرم الروحي الوديع المغروس في امواج النفس الهادرة المسافرة .
فؤاد عاشوري لم يكن مجرد هدير في عاصفة الالم بل هو شاعر يتبتّل في محراب القصيدة دون ضجيج عال أو صخب، يكتب قصيدته بانسيابية دون أن ينحني ولكنه يتواري وراء شجرة اللحظة التي يسجل فيها كلماته أمام مرآة الحدث, يتمنّى أن يتسلق سعف النخيل ويقف في سوق عكاظ يحمل معه ارجوزة الشعر ليقلع في اشرعة السفر .
ففي قصيدته ميساء تتجلى انسيابية الحرف كانسيابة الغيوم في صحاري السماء الناعسة المتثائبة وهي تودع المساء , حيث تتجمع لديه الصور بشكل متناغم لتستوي لدية بعض المفردات وكانها تستجمع شجاعته على الصعود الى قمة التل ليواعد فتاته هناك ولكنها فتاة من نوع ومن نسخ اخر ..
الموتُ والحياةُ
في الفِراقِ لي سَوَاءْ
تَبَسَّمِي كَنَجْمِةِ السَّماءْ
وَانْشَرِحِي كَنَسْمَةِ الهَوَاءْ
وَغَرِّدي كَالطَّيرِ في الفَضَاءْ
وَابْتَهِلي للهِ بِالدُّعاءْ
فَكُلُّ مَا نَمْلِكُهُ الدُّعاءْ
وَخَيْرُ مَا نَمْلِكُهُ الدُّعاءْ
واللهُ قَد أَوْعَدَنا
بِأَنَّ بعدَ الهجْرِ يا أَميرتِي لقاءْ
قلب ينبض كقطرات المطر المتساقطة على بركة من المياه وسط مساحات العشق الحالم يكتب القصائد من وجدان منسرح يستهوي الصبايا وهن يحملن جرارهن ليملأن القرب بسكينة الليل وبانعكاسات قوس قزح .
اما المحمرة وهي التي شكلت في التاريخ عمقا للنبض الاصيل وتباهت في الزهو رغم وعورة الطريق , فهي كائن رائع تماوج في هدير الشاعر فؤاد ليقدم لنا ايحاءات تندس في سكينة الروح وفي انفاس السحر الحالم المتماوج في شرنقة الانين :
هَل رَأيتُمُ الشُّموسَ في المُحَمّرهْ؟
اللهَ يا مَدينتي , اللهَ يا مُحَمّرهْ
رُوحي فِدى حَبيبتِي
روحِي فِدى المُحَمّرهْ
مدِينَتي أُحِبُّها
أُحِبُّ كلَّ قَطرةٍ بِمائِها
أُحِبُّ كلَّ رَملةٍ ونَبْتةٍ بأَرضِها المُعَطّرَهْ
مَدينَتِي أُحِبُّ في سمائِها
نُجومَها وبدرَها المُنيرَ كلَّ ليلةٍ
أُحِبُّ في وقتِ الغُروبِ شَمْسَها المُكَوَّرَهْ
حَزينةٌ مَدينَتي
حزينةٌ قَسطلةُ المياهِ في شُطوطِها
حَزينة زَقْزقةُ الطيورِ في رياضِها
كَأَنّمَا الطيرُ الذي يَشدُو على غُصونِها
قَلبي الذي يَشدو على ضُلوعيَ المُكسَّرهْ
هنا تتضح صورة الوطن المسافر في عيون الشاعر المكتوى من الم الغربة والمسمّر على اعواد الخوف , والمتارجح في دوامة نسائم الصيف وهي تهطل مثل دموع اليتيم حين يحاصر بالعدم وحين يغامر في اخر الرمق .
…