23 ديسمبر، 2024 7:01 ص

هاجس غريب انتابني وأنا أعبر الشارع قادما من تمثال كهرمانة باتجاه “ أرخيته” بمنطقة الكرادة، المنطقة هادئة تماما بعد أن شبعت أنفجارات سابقة وحصدتْ أرواح ناس أبرياء، كنت أمشي ببطء، وأنتقد نفسي على تثاقل الخطى في زمن يتطلب السرعة بخطوات أوسع، ورغم وسع الشارع ووضوح علامات المحلات التجارية، لكن ثمة غموض يلف المكان، غموض لا يفصح عن نفسه بسهولة، حتى الحديث بين صديقين يرتخي لمهابة المكان، لأنه يعطي فسحة من الاسترخاء والتأمل قبل الحديث، بل حتى المشي وحيداً يثير هواجس وأسئلة وتصورات وتأملات وصمت يعيد زمن مضى في لحظة آنية، ربما هذا السبب الذي دعاني أستعيد حالة قبل ثلاثين عاما حين كنت أتأبط كتاب أسمه “ الغثيان” للفيلسوف “ جان بول سارتر” وتعثرت على الرصيف في عبوري لنفس الشارع في زمنين مختلفين، تصفحت متن الكتاب وأسهبت بقراءته في مقهى تطل على رصيف يعج بالمارة والنساء الجميلات، لكن لم أكترث إلا ما تقول الرواية التي تغوص بالنفس البشرية وتتحدث عن الوجود والقلق والحياة والسأم والاجترار والخشية، حتى شعرت فعلا بالغثيان. لأن هذه الرواية الصعبة كتبت بقصديه تصور هيولية الرتابة بلا عنصر للتشويق غير الصمت بوصفة حالة نعيشها يومياً.

وهي باختصار تحكي عن طبيعة مثقف يشعر بالملل، هو “انطون روكانتان” إنسان يعيش في ميناء نورمان ببوفيل ويعمل على وضع سيرة “الماركيز دي روليبون” احد رجالات القرن الثامن عشر.

 وروكانتان في الثلاثين من عمره، ولديه دخل خاص متوسط وهو غير مرتبط بعمل أو أسرة فهو يستطيع العمل والعيش بحرية، ومع ذلك فانه يشعر بأنه ليس حراً، لأن الحرية تتطلب التزاماً وشروطاً معينة، وهو الأمر الذي يعده “روكانتان” سخرية مرة من الحرية، وبالتالي يتهرب منها بشكل حقيقي.

وما زلت أتذكر أشرت بالقلم الأزرق إشارة في أحدى صفحات الرواية، هذه الجملة التي احتفظت بها تقول: هذه الأرض تحكنا بأظافر سود سرعان ما تتحول الى دود لذلك نختنق.

“روكنتان” شخصية قوية في الرواية وهو واعي ومثقف وحداثوي بينما نجد أن المجتمع ومن خلال موقف صاحب المكتبة لم يرحموه، وعاملوه على أنه ضعيف ومسكين، و تناسوا أنه زبون دائم للمكتبة وصاحبتها مع  أنه مثقف من الطراز الممتاز، لذلك لا جديد فيما يفعله الأنذال.

 أكملت الرواية وأنا أتصور أن “روكانتان” هو الذي كتبها لأنه يراقب الأشياء وهو الذي يكتشف ويفكر ويبحث عن نفسه ، وتساءلت: هل نعيش غثيان سارتر جراء ما يجري من رتابة الحياة التي لا تفك منا غير مزيد من السأم والملل؟ أنه غثيان ثقيل في دوامة الحالة اليومية، ولكن هل ثمة صحو؟ ربما هناك أجابة!