23 ديسمبر، 2024 2:10 ص

الغازٌ تبقى الغازاً !

الغازٌ تبقى الغازاً !

ما حدثَ صبيحة 14 تموز وبعد انكشافِ معلوماتٍ ومعلومات عن خلفياتها , فبات من الصعب تسميتها بثورة , رغم صعوبة تسميتها بأنقلابٍ ايضا , وتكمن المعضلة بشبه استحالة مفردة جديدة تجمع بين الأنقلاب والثورة .!

وعلى الرغم من مرور 59 عاماً على ذلك الحدث او تلك الحركة , فعموم العراقيين منقسمين الى اكثر من قسمين في تقييمهم ومواقفهم من ذلك الحدث , والأنكى أنّ الكثيرين لا يمتلكون معلوماتٍ مفصلة عمّا انكشف من اسرارٍ عن العهد الجمهوري الأول آنذاك , ولاحظتُ أنّ البعض الكثير يبدون اعجاباً شديداً بالزعيم الراحل عبد الكريم قاسم لغاية الآن , وهم ممّن لا يتقبّلون أية مناقشه حوله.

من ضمن الوثائق والمعلومات التي جرى الكشف عنها ومن مصادر موثّقة وموثوقة أنّ الزعيم عبد الكريم قاسم ” وفي اواسط خمسينيات القرن الماضي ” اختفى وغاب عن الجيش العراقي لمدة 6 شهور ! < علماً أنّ غياب اي ضابط لِ 24 ساعة في الجيش العراقي منذ القدم , فيعني أن تقوم الدنيا ولا تقعد > , وبعد مرور الشهور الستّة ظهر عبد الكريم قاسم فجأةً واتضحّ انه كان في لندن , وقد توسّطت السفارة البريطانية في بغداد لدى وزارة الدفاع لإعادته الى الجيش .! فماذا كان يفعل الزعيم الراحل في لندن ! وحتى لو كان تغيّبه لغرض العلاج , فلماذا لم يكن ذلك بعذرٍ مشروعٍ وبموافقات طبيّة وعسكرية .! وسيبقى هذا اللغز محيّراً وغير قابلٍ للتفكيك .

لولا الفريق الركن رفيق عارف – رئيس اركان الجيش العراقي في العهد الملكي لما كان لحركة 14 تموز أن تحدث .! , وحدث قبيل حركة تموز بفترةٍ ليست طويلة أن اتّصل الملك حسين بأبن عمّه الملك فيصل الثاني وابلغه أنّ لدى المخابرات الأردنية معلومات تفيد بوجود تنظيم خاص داخل الجيش العراقي بنيّة الأنقلاب على الحكم الملكي , فأرسل الملك الفريق رفيق عارف الى عمّان للتعرف على التفاصيل , وفعلاً قابل الفريق عارف الملك حسين ورئيس مخابراته وشرحوا له بالتفصيل واسماء الضباط المشاركين بالتنظيم وبضمنهم قاسم , لكنّ رئيس الأركان العراقي نفى جملةً وتفصيلاً تلك المعلومات .! , من جانبٍ آخر , فقد كان العقيد عبد السلام عارف يلتقي لمراتٍ عديدة برئيس الأركان وتستغرق لقاءاتهما عدة ساعات ! مما أثار دهشة كبار الضباط بوزارة الدفاع . ومن المعلومات الأخرى المنتشرة أنّ رئيس جهاز السافاك الأيراني ارسل بطلب حضور احد الصحفيين السوريين المقيمين بالخارج وابلغه بأيصال رسالة شفهية الى الأمير عبد الأله الذي كان بأسطنبول , وباليوم الثاني كانت سيارة من القنصلية الايرانية في اسطنبول بأنتظار الصحفي السوري او مبعوث رئيس المخابرات الأيرانية . ونقلوه عبر زورق الى اليخت المتواجد فيه عبد الأله , مضمون الرسالة هو طلب خاص من رئيس السافاك بأخراج الملك فيصل على الفور الى خارج العراق , حيث أنّ حركةً انقلابيةً على وشك الوقوع , ولم يأخذ عبد الأله ذلك على محمل الجد لضيق أفقه .

في مطلع تموز 1958 طلب الملك حسين من العراق ارسال قطعات عراقية للمرابطة في الأردن , وعلى اثرها قابل الملك الأردني الفريق غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة العراقية < المفترض توجّه احد الويتها الى الأردن > وابلغه بوجود معلومات لدى الأستخبارات الأردنية تؤكد نيّة عدد من الضباط العراقيين للقيام بالأنقلاب , الداغستاني ذكر أنّ بغداد تعجّ بالشائعات عن قرب وقوع الأنقلاب , لكنّ الملك حسين لم يكتف بذلك بل ارسل رئيس مخابراته الى بغداد قبل اسبوعين من الحركة وابلغ المسؤولين العراقيين عن قرب ساعة الصفر .!

ما نقصده هنا من هذه الأمثلة المختارة , أنّ حركة الضباط الأحرار كانت مكشوفة للأجهزة الأمنية العراقية لكنّ الفريق رفيق عارف كان يغطّي عن تلك التحركات ويموّه عنها ” وكان يأمل بالحصول على رئاسة الجمهورية او انقاذ نفسه اذا ما نجحت الحركة ” .

زخم وسخونة المعلومات حول الحركة الأنقلابية وصل الى نوري السعيد وأثارت دهشته بوجود أسم عبد الكريم قاسم والذي يعتبره من الموالين للقصر الملكي , وقال لرئيس الأركان أنّ قاسم طالما يوصل لنا اخباراً خاصة عن اوضاع الجيش , وعلاقته قوية بقاسم , فطلب نوري السعيد فجأةً اضبارة قاسم لمراجعتها ولم يجد فيها ما يثير الشكوك , لكنّ الفريق الداغستاني امتعض من مراجعة الأضبارة .. من جانبٍ آخرٍ وابعد زمنياً , فقبل اكثر من سنةٍ على ثورة او انقلاب تموز , فقد كانت ترد معلومات مفصلة حول تنظيم الضباط الأحرار الى المقدم محمد شيخ الطيف – رئيس شعبة استخبارات الحرس الملكي وكان يقدمها للوصي عبدالأله أولاً بأوّل , لكنه في شهر حزيران من عام 1957 قدّم المقدم محمد شيخ الطيف اضبارة تحتوي على اسماء ” المتآمرين ” وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم والعقيدين عبد السلام عارف ورفعت الحاج سرّي , تبين هدف التنظيم للقيام بعمل عسكري لقلب النظام الملكي , وفور ذلك طلب عبدالأله بأستدعاء السفير البريطاني ورئيس الأركان ومدير الأمن العام كلاً على انفراد لمناقشة هذه المعلومات واتخاذ التدابير اللازمة , الغريب بالأمر أنّ السفير البريطاني نفى صحة المعلومات دونما تدقيقٍ فيها ! واعتبرها من الأشاعات , ثم أنّ الفريق الداغستاني نفاها نفياً قاطعا ايضا , مدير الأمن العام لم ينف ذلك وطلب التحقيق فيها … وإذ يتمحور حديثنا في هذه الفقرة عن تواطؤ الفريق رفيق عارف , فعند الشروع بأرسال قطعات اللواء العشرين الى الأردن < فأنّ مقتضيات الأمن في الجيش تمنع تحرّك ايّ لواءٍ من الوية الجيش دفعةً واحدة , وانما على شكل دفعات وافواج , لكن الفريق عارف ارسل اللواء بأكمله فجر يوم 14 تموز لتسهيل عملية الأنقضاض على الحكم الملكي , ومن مقتضيات الأمن الأخرى فأنّ حركة اي وحدة عسكرية تتطلب وبشدة عدم حملها لذخائر اسلحتها تحسباً لكل الأحتمالات , وهكذا فأن جنود القوة التي هاجمت قصر الرحاب كان بحوزة كلّ واحدٍ 5 رصاصات فقط .! فكيف كان يضمن عبد السلام عارف نجاح حركته بهذه الإطلاقات وهو يعلم أن لواء الحرس الملكي مسلّح بأحدث التجهيزات والأسلحة , ولم تكن القوة المهاجمة لتتمتع بأي اسناد مدفعي ولا جوي .!

الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم هو اوّل من ادخل ثقافة الدم الى العراق , واساء الى نفسه بعمليات الأعدام , حيث اعدم 27 شخصاً من المشتركين في حركة الشواف , واعدم 4 اشخاص من رجالات العهد الملكي , ولم يكن مقبولاً اعدامه لبعض اعضاء حركة الضباط الأحرار حتى لأشتراكهم في التآمر عليه , فقاسم كان آخر من جرى ضمّهم للتنظيم , كماأنّ قاسم اوّل من ادخل الميليشيات المسلحة الى المجتمع العراقي , ولا ينسى العراقيون ماذا فعلت ميليشيا الحزب الشيوعي من استهتارٍ بأرواح الناس , وقد أساء الزعيم قاسم للعراق ولنفسه عبر مسخرة محكمة المهداوي التي تبثّ مباشرةً على الهواء وجعلت العراق موضع تندّر أمام الرأي العام العربي , حيث رئيس المحكمة العقيد فاضل عباس المهداوي ” ابن خالة قاسم ” كان يتمتع بلسانٍ سليط والفاظٍ نابية على المتهمين السياسيين .. كان قاسم من الضباط الأكفّاء والشجعان المعروفين في الجيش , لكنه في 8 شباط 1963 يوم الأنقلاب عليه , ارتكب غلطته الكبرى التي قضت عليه , فعند سماعه ببدء الحركة الأنقلابية غادر مسكنه ووصل الى وزارة الدفاع حيث مقرّه في الساعة العاشرة صباحاً ! وكانت الأشتباكات قد بدأت والمتظاهرون تجمعوا قرب الوزارة , لكنه حاصر نفسه داخل وزارة الدفاع , وفقد قدرة المناورة والهجوم المضاد ” رغم وجود قوة بحجم لواء داخل مقرّه في بوزارة الدفاع , وجعل نفسه بوضعٍ دفاعيٍ قابلٍ للأستنزاف , ومما يؤاخذ عليه الراحل قاسم عدم قدرته بتأمين اتصالاتٍ لاسلكية مع الفرق والألوية الأخرى حول بغداد وفي المحافظات القريبة للقيام بسحق الهجوم على مقرّه , وهو لم يحتفظ بمنفذ مائي خلف الوزارة للهروب والتحرك عبر نهر دجلة !

من المفارقات الأخرى على الذكاء الأمني لقاسم , فقد ذكر العميد محسن الرفيعي مدير الأستخبارات العسكرية في العهد القاسمي ” في وقتٍ لاحق ” أنّ الزعيم قابله واخرج من جيبه ورقةً تتضمّن معلوماتٍ تفصيلية عن خطة كاملة ومفصلة عن تهيّؤ البعثيين للشروع بتنفيذ انقلابٍ عليه .! , ومفارقةٌ ثانية , أنّ الحزب الشيوعي الموالي لقاسم وقبل 15 يوماً من الأنقلاب عليه , اصدر بياناً علنياً عن انقلابٍ وشيك الوقوع وعن موعدٍ محدد لتنفيذه .! , فلماذا لم يتخذ الزعيم اية اجراءاتٍ احترازية .!

الرجل جرى اعدامه بطريقةٍ مشينة وخارج نطاق الأعراف والأخلاق , وكانت له حسناته ايضاً , انما خلفية حركة 14 تموز , تبقى مبهمة داخلياً وعلى بعض الصُعد الدولية .!

الفريق الركن رفيق عارف الذي وافاه الأجل في منتصف ستينيات القرن الماضي , لم يكتب مذكراته .! كتحسّبٍ استباقيٍّ كي لا يحاسبه التأريخ .!