في (دقيقتان … ودقيقة واحدة ) للشاعرة بلقيس خالد
2-3
كل قارىء يدخل فضاء الكتابة بجهازه المفهومي، وفعل القراءة هو المحرك الرئيس لسكونية المكتوب، وضمن الجهاز المفهومي تتموضع أخلاقيات قراءة منتجة، تتجاور حينا مع النص أو تطوف حوله أو تتعقبه، أو تظلله، ومثلما ليس هناك كتابة أخيرة، فليس هناك قراءة أخيرة ،حين تكون النصوص ثرة بكنوز جهويات دلالاتها، وفعل القراءة لا ينتسب لحراس الحدود، ولا لمزاجية البسط والقبض،فهو مسؤولية أخلاقية،وحرية مشروطة بخبرات متراكبة، فلا دخل للقراءة بطريق ذي ممر واحد، أما القراءة التي تصنّع قفلا مِن شمع ٍ أحمر، وتتوهم أنها هي وحدها أم القراءات كافة: فهذه القراءة طوقت فعلها بمراياها من الجهت الست. هكذا قراءات مصابة بعوز مناعي،لذا تتوهم أنها محقونة بحقن (تيتانيوم) تحت جلدها يجعل كينونتها ضد الرصاص .وهنا الوهم الثاني، فهي تتصور علم الأدب ساحة معركة ولا بد من درع يتفوق على كل الدروع. بينما فعل القراءة، ينتسب للمائدة المستديرة. وينير ذواكرنا بسعادات ٍ تحسن العد إلى ما لانهاية .
(*)
مع العنوان الفرعي الأول (منحدرات متصدعة) نكون مع واحدية الأنثى بدءاً بالرقم (1) وصعوداً إلى فصوص الهايكوات، حيث المبثوت الهايكوي يتعطر من تفردات الأنثى ونصوع حضوراتها لأن عين الأنثى تلامس الأشياء بحنو غزير، وبالغزارة نفسها تشعرن الأشياء والمكابدات أما عين الذكورة فهي في الغالب لا تُحسن الإنصاف: لأنها حسيرة البصر،بسبب تشكلات منطقها المستبد، عين ُ تسمي الضعف امرأة والكيد والمكرر والتخلف والتدني وو..إلخ من أمراض النساء المزمنة.!! لكن تأنيث الرؤية / تأنيث العالم يتجسد في النسق الهايكوي الثلاثي التالي :
(في الأرض الخصبة
والصحراء
وصخور الجبال
المرأة
: عشبة ٌ زرقاء)
إذن في الخصوبة واللاخصوبة وتجاعيد المرتفعات: المرأة شاخصة بتفردها الأسطوري الخالد الجميل : عشبة زرقاء. وظيفة الهايكو هنا هي: التوجيز ثم التكثيف المشحون بضوء الدلالة المتأرج . الهايكو هنا جغرافي السمات، ثم يستقر في التاريخي المؤسطر : العشبة الزرقاء. لو أكتفت خاتمة الهايكو هكذا 🙁 المرأة عشبة ٌ) لمكث الهايكو في عادية باردة عاطلة الإيحاء، ولتقزم حضور المرأة ..وهنا تتجسد مهارة تصنيع الهايكو من لدن الشاعرة بلقيس خالد، وهي مهارة خيميائية، حيث يتسيد ثراء الأزرق في تراتبيات الوجود كلها، ويتأنث مفعوّل الأمكنة عليه .
إذا كانت العشبة الزرقاء، توأم الفراشة في التلوين فالهايكو التالي يضيف بعدا مشرقا آخر لمديات المرأة
(هل يود الضوء أن يصير
امرأة ً
: سؤال ٌ وجهته إلى
فراشة ٍ تحوم ُ
حولي..)
أي رهف يلتقط هكذا تحاور؟ وما المتسبب في توجيه هكذا سؤال من البشري إلى كينونةٍ لرفة أجنحتها مؤثرية كبرى في توازنات الجغرافيا!! والمرأة لماذا لم تبث سؤالها مباشرة إلى الضوء نفسه؟ وهل كانت الفراشة رسولة أرسلها الضوء إلى المرأة؟ ولماذا يريد الضوء تأنيثه وهو خارج التفارق الجنساني؟ هل في الأمر إستعارة وكناية ومجازات؟ جمالية هذا الهايكو تعطل كل أجابة ً وتترك لفعل قراءة حريات التأويل .
(*)
الفراغ نسبي وأراه خدعة ً مثل السكون. وخدغة ً في الكتابة، هكذا تحاول قراءتي المنتجة أن تتأمل في الهايكو التالي :
(فارغ ٌ تجلس ُ على حافته
طيورٌ حمر
تركت المرأة ُ كوبها)
كأنني أمام لوحة زيتية، بفرشاة ماتيس، في الفراغ حركة يستعيدها مخيال القارىء، ثمة امرأة كانت ترتشف شايا أو زهورات، وحين فرغ الكوب، المرأة تركت الكوب وربما المكان،الفراغ لا يملأ الكوب، بل يشير إلى فراغ أوسع وأعمق، مسكوت عنه، وثمة إيماءة شفيفة تكتنزه، لكن هذه المرأة تركتْ شاهدَ عدل ٍ جمالي، أنها كانت هنا وتركت صدىً أنثويا لذيذا،على حافة الكوب،فثلما أرتشفت ما في الكوب،فالكوب أيضا أرتشف ما في شفتيها مِن حمرةٍ . . نلاحظ أن شعرية الهايكو، اشتغلت بلاغيا: تقديم الخبر على المبتدأ لأهميته. فالبشري تاليا أما الأول فهو ما يدل على جمالية الحضور. هنا تتجسد أهمية الأشتغال الهايكوي الماهر الحذر المقتصد مبنى ومعنى..
(*)
نلتقي امرأة أخرى،في مشهد مسرحي صامت، امرأة تكتنفها الظلال وربما لتتخلص منها،ومن الضوء الوحيد في غرفتها :
(رقدت إلى جانبها جميع الظلال
امرأة
اطفأت المصباح القريب مِن
سريرها)
هنا: المرأة أكتفت بفعليّ الرقود والإطفاء، لكن هل نامت المرأة؟ وكيف تنام وجميع الظلال راقدة ٌ معها ؟ والسؤال الأهم : لماذا اطفأت المصباح؟ قد تبدو هذه الأسئلة ساذجة في نظر البعض، لكن تلغيزات النص هي التي تنتج غزارة الأسئلة حين تكون قراءتنا متمهلة متساءلة مع النصوص . لا نتظر أجوبة ً فالنص يمتلك مقوماته الهايكوية المتأملة،وأي أجوبة، لاتقشر النص بل تفسد لذة القراءة .
وهذه المرأة ربما هي تلك المرأة التي:
(من العزاء تعود إلى بيتها، تتفقد خزانة الأدوية
: المرأة الوحيدة)
هذا النموذج النسائي، هو النمط الذي أصبح مألوفا في تضاريس حياتنا الأشد قساوة
لم يبق لهذه المرأة من يتفقد أحوالها، ولم يبق لديها سوى المشاركة في (العزيات) والعودة إلى قوقعتها. أن حياة ً يبيسة ً في الحياة ونحيلة ً كخيط لايوائم سيرتها سوى كثافة الهايكو وهي لا تشارك في العزاءات فقط بل هي تصعد ترتيلا حين تتساقط دموع الثكالي والأرامل والفتيات المفجوعات :
(أرتل ُ سورة َ النجم
كلما
هوى..
دمع النساء)
لماذا سورة النجم وليس غيرها؟ هل قدحت في فطنة القارىء النوعي مثل هكذا سؤالات؟ وهل تساءل القارىء كم نسبة المحمول المجازي في هايكو محتشد بجهوتين
*جهوية من الأسفل إلى الأعلى، هنا تصعيد فعل القراءة ناصع مبارك( أرتل سورة النجم) لو نطق وأكتفى الهايكو بهذه الصيغة (أرتل سورة النجم) لحصلنا على معنى
متعارف عليه، يشير إلى طقوس عبادية، لكن هذه القراءة بميقات معلوم( كلما) وحين نقرأ سورة النجم بتفكر ونقرأ عنها سيكون لدينا ثراء في سعة قوس تذوق النصوص وأقول التذوق والقراءة الذوقية، لما تحتويه هايكوات هذا الكتاب من شفافية صفو الصوفيات من النساء.. ولا تكتفي الشاعرة بجهويات متكررة بل تفتح جهة ً جديدة ً
(كلما تساقطوا
أمتهنت مشاعر النساء
النزيف)
لننضد : تساقطوا – أمتهنت -، رجال العائلات يتساقطون في الحشد الشعبي في تظاهرات أيلول بصرة 2018 وهنا ستجهض الحوامل : نزيف.. وستتدفق بقوة هائلة القلق، مثل نزف مشاعرهن … ثم تتحول العلاماتيات وتكون بأسماء تصنعها الفجيعة العراقية :
(: جدتي
كم عمرك الأن؟
سكتت..
لتعد جبهات القتال)
أمامنا دلالة أعمق من المعنى المعجمي للكلمة، فالزمن يتحول أمكنة : جبهات القتال، فالمرأة الجنوبية
(مَن وشم َ وجناتها بالدمع
: المرأة
التي أرضعت الجبهات)
جدة عمرها يتوزع على أمكنة القتال. وأم أرضعت الجبهات وليس أولادها، هنا الكتابة بالحذف، التقليد اللغوي المتشدد أصوليا سيكتب السطر هكذا
(التي أرضعت أولادها للموت في الجبهات) أما الرهف الحداثي، فيشتغل على المحذوف ويتجنب المعلن، لأن هكذا وعي ينتخب قارئين مميزين، وقديما قالها العظيم البحتري (عليّ نحت ُ القوافي مِن مقاطعِها وما عليّ لهم أن تفهم البقر )
إذن كل منتج إبداع ينتخب قارئا ويصنّع تراسلا مرآويا معه .. ودمعة العراقيات
باهظ الأثمان، ويتدفق بمشروطية تفعيل موجب مزهر مضيء
( لا يستحق خدودنا :
دمع ٌ
لا
يغسل آثام الحروب)
هل عين العراقية لاتبصر سوى الأوجاع والكوارث والفقد؟ وهل ستبقى عين العراقيات تنتظر صدقة ً حكومية ً لتبكر فرحا؟
(غير باكية عليها
كل يوم أجمع ُ ما يموت
من أوراق شجرة التين)
لا يعني ذلك أن هذه المرأة لا تكترث، وهي لو كانت هكذا لما انفتح الهايكو بغياب الدمع وحضور(الجمع) للأوراق المتساقطة، وجمع السقط (كل يوم) أن الأهتمام لم يقل بهذه الشجرة، من خلال جمع المتساقط فالمرأة مهتمة بجماليات شجرة التين والعناية بها. وهنا رسالة الهايكو : قليل من الكلام، ورهف القول، ورهف الدلالة وليس المعنى المعجمي. ولا يقتصر الأهتمام بهذه الشجرة، فروح الفلاحة مزدهرة في حدائق بيوتنا
(تحت أظافري
أحتفظ برائحة أرض ٍ
تحيي صباحي بالأزهار)
لننتبه قليلا : ( كل صباح) وفي الهايكو السابق( كل يوم).. الشجرة كل يوم بلا تحديد الوقت، لكن الأزهار : معظمها صباح الخير تقول لنا ، في الهايكو السابق فعل ظاهري، جمع الورق المتساقط، في هذا الهايكو فعل جواني بمستويين
تحت أظافري، وهو نتاج حراثة خفيفة : تحت الأرض.
*بلقيس خالد/ دقيقتان … دقيقة واحدة / دار المكتبة الأهلية/ البصرة – بيروت / 2019