من الصعب أن نركن الى الأحداث التأريخية التي وردت تفاصيلها في التوراة الحاضرة والتي اعتمدها الكثير من المفسرين وجعلها شاهدة على ما ذكر في القرآن الكريم وذلك بسبب عدم توافقها مع الوقائع المختصرة التي بينها الله تعالى في كتابه المجيد، ومن هنا يُرجح الأخذ بالنص دون تفريقه أو الإسهاب في تفاصيل مجرياته التي لا تتناسب مع الظهور الكامل في تسلسل الأحداث أو الإشارة إلى أسماء الأشخاص الذين كانت لهم صلة مباشرة بتلك المجريات باعتبار أن هذه الزيادة لا تخرج عن العبثية التي ينزه عنها القرآن الكريم، وهذا الوجه هو الأقرب إلى تبيان المعاني التي تجعلنا أمام الحقائق المشار إليها في المتفرقات لأجل أن نباعد بين القرآن الكريم وبين التوراة الحاضرة التي تعتمد على التفاصيل غير المبررة، ومن هنا نستطيع القول إن أصحاب هذا النهج ليس بوسعهم التحرر من القيود الملازمة لهم والتي ترتكز على الجدال الذي يأخذ المنعطف الجائر الذي يريد البعض أن يدحض به الحق.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن أصحاب الضلال أرادوا إظهار ما في مخيلتهم من اعتقاد ونسبته إلى كتاب الله تعالى وذلك لإضفاء الصفة البشرية عليه، ومن مصاديق ما ذهبوا إليه قولهم إن النبي قد تلقى القرآن وما فيه من تعاليم عن طريق ورقة بن نوفل أو كما قيل إن جبر الرومي هو الذي علم النبي تفاصيل الأحداث التي جاء ذكرها في القرآن الكريم على شكل آيات تتلى ويتعبد بها، وهذا ما نزه الحق رسوله “صلى الله عليه وسلم” عنه وذلك في قوله تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل 103. وأنت خبير من أن هذه السنة لا تزال متبعة إلى يومنا هذا وبطرق مختلفة ومن أناس لا يملكون من العلم إلا الجزء اليسير الذي يضلون به من هو على شاكلتهم، ومن هنا أود الإشارة إلى واحدة من الآيات التي يتمسك بها ضعاف الإيمان وهي قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً) الكهف 86.
ويعتقد هؤلاء أن هذه الآية تشير إلى دخول الشمس في عين حمئة وهذا ما يجعل الأمر مخالفاً للحقائق العلمية وبالتالي يصبح القرآن الكريم في عداد الكتب التي تتحدث عن الأساطير والأوهام، وهذا بحد ذاته أبعد عن الصواب كالبعد بين المشرقين، فهل هناك من يصدق أن الشمس تختفي عند الغروب وتسقط في الماء، ثم إن الله تعالى لم يشر إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أراد أن يذكر الحقائق التي تليق بالجوانب المعهودة من السياق المختصر الذي بيّن فيه أن ذا القرنين ذلك العبد الصالح الذي آتاه الله تعالى القوة والقدرة ومكن له في الأرض قد استطاع أن يتبع الأسباب بعضها ببعض حتى وصل إلى أقصى الأرض المسكونة من الجانب الغربي، ثم قال: (ووجد عندها قوماً) الكهف 86. ليلفت الأنظار إلى أن الغرابة الملازمة لذلك التمكين جعلته يصل إلى هؤلاء القوم على الرغم من بعد المسافة بين المشرق والمغرب.
وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) الكهف 86. أي أن هذا آخر الأماكن التي تختفي عندها اليابسة ولم يتبق سوى الماء وليس هناك ما يشير إلى دخول الشمس في عين حمئة على الحقيقة وإنما جعل الأمر أقرب إلى الكناية، وهذا يدل على أن المكان الذي وصل إليه في رحلته هو آخر ما تبقى من الأرض المسكونة. وإن شئت فقل إن هذا المكان هو آخر ما تبقى من اليابسة بحيث أصبح لا يرى إلا الماء الذي أحاط بكل شيء حوله، وبطبيعة الحال إذا انتهى الإنسان من السير في اليابسة ولم ير إلا الماء فههنا لا يرى الشمس إلا وهي تغرب فيه، وهذا يدل على أن البحر كان مترامي الأطراف بحيث لا يجعل مجالاً للعين أن ترى شيئاً آخر. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضاً قال: (ووجد عندها قوماً) ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: (تغرب في عين حمئة) من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: (تغرب في عين حمئة) إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة. الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث. ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى: (ووجد عندها قوماً) الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني: أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه. انتهى. وهناك مباحث أخرى ذكرها في تفسير الآية من ارادها فليراجع التفسير الكبير للفخر الرازي.
الرأي الثاني: يقول الطبرسي في مجمع البيان: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) أي موضع غروبها أنه انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب وبلغ قوماً لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس ولم يرد بذلك أنه بلغ إلى موضع الغروب لأنه لا يصل إليه أحد (وجدها تغرب) معناه وجدها كأنها تغرب (في عين حمئة) وإن كانت تغرب في ورائها عن الجبائي وأبي مسلم والبلخي، لأن الشمس لا تزايل الفلك ولا تدخل عين الماء ولأنه قال وجد عندها قوماً، ولكن لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء ومن كان في البرّ يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء، والعين الحمئة هي ذات الحمأة وهي الطين الأسود المنتن والحامية الحارة وعن كعب قال أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. وقوله: (ووجد عندها قوماً) معناه ووجد عند العين ناساً (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً) في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفاراً والمعنى إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
الرأي الثالث: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: المراد بـ (مغرب الشمس) مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته. وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل. والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين. والقول في تركيب (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) كالقول في قوله: (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) والعين: منبع ماء. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص (في عين حمئة) مهموزاً مشتقاً من الحمأة، وهو الطين الأسود. والمعنى: عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف: في عين (حامية) بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن. ويظهر أنّ هذه العين من عيون النفط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة (باكو) وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفاً يومئذ. والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة. وتنكير (قوماً) يؤذن بأنهم أمة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم . فجملة (قلنا يا ذا القرنين) استئناف بياني لما أشعر به تنكير (قوماً) من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين. وقد دل قوله: (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً) على أنهم مستحقون للعذاب، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل. وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه تردداً بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله: (قال أما من ظلم) أي قال في نفسه معتمداً على حالة وسط بين صورتي التردد. انتهى. فإن قيل: لِمَ قال سبحانه: (وجدها تغرب) في آية البحث ولم يقل رآها تغرب؟ أقول: أراد الله تعالى أن يبين أن غروب الشمس على هذه الحالة يظهر من الجهة المشاهدة دون الحقيقة، وهذا يدل على أن الشمس لا تدخل في الماء ولو قال رآها لانتفت هذه النكتة.