23 ديسمبر، 2024 5:35 ص

كل ماحدث في العراق بعد الاحتلال عام 2003 وفي بلدان عربية اخرى، جعلنا امة مصفوعة بشدة، فاقدة للتوازن، تائهة لاتعرف الطريق نحو الحرية والاستقرار والتقدم، في ذات الوقت الذي فقدت فيه جزءا مهما من شخصيتها، وتناست مرحلة مهمة جدا من تاريخها، وانقلبت بوصلتها على نحو مفاجيء وسريع من النظر للمستقبل الى وهم الماضي وثقافته، وكأننا دخلنا نفقا دوديا اعادنا الى الوراء اربعة عشر قرنا كاملة، لنستعيد صراعات فات اوانها وانتهى عصرها واسبابها، حتى يخيل للبعض تماهيا مع فوضى وكوميديا العقل القائمة الان انه يعيش عصر الرسالة الاسلامية ومن ثم الخلافة التي لم نخرج من عبائتها حتى الان، فذهبت عقود النهضة العربية التي ابتدأها التنويريون العرب ومن ثم نضال وجهود المثقفين المناضلين اليساريين والقوميين في مقارعة الاستعمار ادراج الرياح، لتنتهي احلام النهضة، ولننشغل بتحطيم ما تبقى من هويتنا وشخصيتنا بايادينا ولكن بمعول الفرس والصهاينة والاتراك والسلفية العربية والقوى العظمى الطامعة بثرواتنا، والحاقدة على عروبتنا وديننا..
والذي حدث في العراق خاصة، لايمكن حصره وشرحه وايضاحه الا بجملة واحدة ( مؤامرة صهيونية فارسية اميركية، لتحطيم هذا البلد وتجزئته ومحو تاريخه)، وكل ما نتج عن هذه المؤامرة هو تفاصيل لا يعدو التوقف عندها سوى اشغال للعقل المنهك اساسا، واجترارا لترهات تضعنا دائما في الطريق الخاطئ،
عقلنا الجمعي بعد صدمة الاحتلال، والوهم بازالة الدكتاتورية ونشر الديمقراطية، تناسى الاصل وانشغل بالفروع، فلم يعد الكثير منا يتحدث عن الاحتلال بقدر ما يتحدث عن الفساد، ولم نعد نتحدث عن الصهيونية ومؤامراتها بقدر ما نتحدث عن الطائفية، لم نعد نتحدث عن العلم والتقدم والتنمية والاعمار والبناء والحضارة، بقدر ما نتحدث عن الولاية والآخرة والخلافة وداعش وفتاوى المأجورين من رجال الدين ودجلهم وشعوذتهم.. لم نعد نرى المستقبل، بقدر ما نستمتع باوهام الماضي..
اذن فان ماحدث في العراق، سواء كنا نتعمق في الاصل والاسباب، او ننشغل في الفروع والظواهر والنتائج، ليس سوى صورة كارثية واضحة للتدمير الشامل، لكل مفاصل الدولة ولبناها التحتية، وركائز اقتصادها، ومن ثم الانسان العراقي الذي نزعت منه هويته ودمرت تقاليده واعرافه ووطنيته، ولو قدر لاي منا ان يضع حلولا لاعادة بناء مادمر في هذا البلد، فان اعادة بناء الانسان هي المهمة الاصعب، نظرا لطبيعة النشاطات القائمة والمدبرة بشكل ممنهج للتجهيل وتشتيت انتباه الجميع للتحديات الحقيقية المتمثلة بالصراع القائم بين اطراف عديدة لاحكام السيطرة على البلاد وتمزيقها..
وازاء ما يعانيه المواطن من مشاق ومتاعب حياتية ومن ازمات نفسية وصحية ومعيشية ومن وضع امني متدهور،اصبحت استجابته لما هو ابعد مما يلامسه يوميا بطيئة ان لم تكن معدومة، فالحديث عن السحر والخرافات والكهرباء والماء والمستشفيات اقرب اليه من الحديث عن العلم والثقافة والفكر والادب والسينما والمسرح، والحديث عن العشيرة والمذهب والطائفة ورجال الدين والمراجع ومآثر التاريخ اقرب اليه من الحديث عن الاستقلال والوطنية وفلسطين والصهيونية والقومية العربية..
امام هذه الصورة الكبيرة الواضحة، ماهي الحلول الممكنة ومن الذي يمكنه ان يصنع الحلول؟..
في كل مجتمع انساني، هناك طليعة، مجموعة من المثقفين التنويريين الناشطين القادرين على الحراك والفعل والتاثير، يقف الى جانبهم شباب واع مؤمن بدوره وبمستقبله، الطليعة المصرية مثلا والشباب المساند لها والذي تمثل بحركة (تمرد)، تمكنت بوقت قصير من ازاحة الظلام الاخواني واعادة مصر الى وضعها الطبيعي، وان لم يكن افضل من السابق، الا انه في الاقل أخرج مصر من شبكة العنكبوت السلفية..
اما في العراق، فاننا نفتقد للطليعة ونفتقد ايضا للشباب المتمرد، ولا يعني هذا ان لا وجود لمثقفين تنويريين طليعيين، الا انهم لا يملكون التأثير الكافي لاحداث ولو تغيير بسيط، او انضاج وعي متناسب مع طبيعة التحديات، ومن جانب اخر، فان الشباب الواعي والمنتبه الى حقيقة ما يجري في البلاد، غير قادر على الحراك بسبب سيطرة الميليشيات وارهابها وسطوة رجال الدين وقيادتهم للنشاطات الانسانية والسياسية، ناهيك عن مسالة بالغة التأثير في الوسط العراقي وهي جمرة الطائفية الخبيثة التي خلقت فجوة عميقة بين ابناء المجتمع، متمثلة بفقدان الثقة والخوف من الاخر..
في العام الماضي تمكنت الطليعة في العراق ومعها رتل من الشباب المؤمن، من الحراك وقيادة التظاهرات والاحتجاجات من اجل الاصلاح، وكان من الممكن لو انها سارعت وتيرة الحراك، ونظمت شؤونها وافرزت قيادة وطنية قادرة على الفعل والمطاولة والتاثير، ان تخلق وضعا جديدا في البلاد، وان تحيي الروح الوطنية وتمهد لعودة الهوية العراقية، غير ان التفاف وتآمر التيار الصدري وسلاح الميليشيات اجهض تلك الحركة، وشل قدرة الشباب على التظاهر بارادة وطنية حرة بعيدا عن التاثيرات الطائفية المذهبية..
مثلت توجهات الطليعة والشباب منذ اب 2014 ولغاية قيادة الصدر للتظاهرات روحا نضالية ثورية حديثة في العراق، وقدمت نموذجا ثوريا وان كان عفويا وغير منظم، لطبيعة النضال الشعبي المسالم لمقارعة قوى الاحتلال والتسلط والتخلف القائمة، الا ان قوى الظلام تملك من الوسائل والادوات والامكانيات ما يفوق قدرة المواطن الغاضب البسيط، فجرى اختطاف اهم الكوادر النشطة، وارهاب البعض الاخر، ومن ثم تولي الصدر عملية التمويه لقيادة تظاهرات الاصلاح، مما افقد الساحة من محركيها الاحرار الوطنيين ودفع الاخرين الى الابتعاد والسكون خوفا على حياتهم، ونكون بذلك قد فقدنا فرصة يصعب تكرارها لرفع يد رجال الدين والعملاء والخونة المأجورين عن ادارة شؤون البلاد، واصبح المواطن العراقي البسيط خارج الحياة تماما، فهو يعيش يومياته وفق نسق متشابك من المعاناة بين الارهاب والفساد والدجل والخرافات والازمات والصراعات المفتعلة داخليا وخارجيا، في الوقت الذي تهدر فيه الطاقات والموارد دون رقابة ودون اية منافع آنية او بعيدة المدى..
اصبحت حياة المواطن العراقي حياة اموات مقارنة بما يجب ان ينعم الانسان فيه في عصر الحداثة والتمدن من وسائل للراحة والسعادة، فقوى الكون المبدعة في شرق الارض وغربها، تسعى جاهدة لاختراع وابداع اية وسيلة من شانها ان تسعد البشر، وان تختزل معاناتهم ان وجدت، وقد تهيأ للحكومات الرشيدة في بلدان العالم الوسائل المناسبة لضمان حرية وسعادة مواطنيها، والحرص على صحتهم وضمان مستقبل اولادهم، في الوقت الذي حرم العراقي فيه من ابسط حقوق ومتطلبات العيش الكريم مع انه يمتلك من الثروات ما لا تملكه دول كثيرة في العالم، وما حرصت زمرة العملاء الحاكمة في البلاد على انتاجه لايتعدى تفريخ الميليشيات، وتسويق المخدرات والسلاح، ونشر الجهل والسحر والشعوذة، واثارة النزعات العشائرية والطائفية..
واليوم ونحن نشهد عمليات تحرير الموصل، انبرى الكثيرون للحديث عن مستقبل الموصل بعد التحرير، دون ان ينتبهوا، ان لامستقبل لاي جزء في العراق دون النظر الى مستقبل البلاد بشكل عام.. لا مستقبل هنا وهناك، دون ان يعود العراقي الى الحياة..