23 ديسمبر، 2024 8:46 ص

إن سيرورة تكوّن الطبقات الاجتماعية القديمة منها والحديثة في بلدان العالم الثالث لا تدخل البته في ما يسمى بـ (التراكم المعرفي المكتمل) وإنما هي سيرورة تاريخية لقمع وقهر شعوب بأكملها ومجتمعات ثقافية بكاملها، سيرورة لها أشكال عنفها المتعددة ويتوقف عليها تكوّن الخراب الذي يشغل بأشكاله المتعددة أيضاً مكاناً حاسماً ومدمراً يغدو في نفس الوقت مؤسسة ذات رسالة محددة من شأنها إعادة انتشار التخلف الفكري والأميّة، هذا العنف الثقافي هو بلا شك مؤسسة وسيطة أيضاً تُعتمد لأجل تخريب الروح وتشويش الفكر وكبحه لكي يتحول عن مجراه الطبيعي في سلم الحياة والتطور والمعرفة . في نيتنا أن نقارن بين هذا النوع من العنف وذاك الذي يحاول أن يتحكم ببداهة المتلقي، على مستوى الكتابة، بحيث يولّد علامات متناقضة مكشوفة مفضوحة تحتل مكانها في الذهنية القلقة وتعبر في ذات الوقت عن طبيعة وسير عمل وتشكيل ظواهر اجتماعية متخلفة إضافية في مجتمع أغلب أفراده مغلوب على أمرهم منهم النائم، الخائف، الكسول، المتخفي، القلق والمريض والمتناقض .
لنحاول تحديد معنى العنف الثقافي، في هذا المقال المبتسر، بمزيد من الدقة: هو الأسلوب الاستعاري بوجهيه القديم والجديد، الذي يستعين بمجموعة من وسائل الاكراه الفكري التي تتيح له، كما يتوهم، السيطرة على السواد الاعظم من العامة (المتلقين) وهذه النتيجة ترتدي أشكالاً متعددة تخدم جوانب عدة للمشروع المراد تحقيقه من وراء هذه الاستعارة المحملة بالعنف وحتى قبل ان يتمكن هذا المستعار من أن يطلب من الآخر التحرك عنوة للسيطرة، بواسطة الخدع اللفظية، على مكامن الخلل المفضوحة وأن تصان بواسطة عملية الدوران حول الفراغ . كيف يتجلى هذا العنف الثقافي؟ كيف يتجسد على صعيد الكتابة، صعيد السيطرة على العقول المربكة؟ أنه يكتسي أشكالاً ذئبية متعددة ومكررة، وعبر تنوع أشكال تجليات العنف نجد وحدانية الهدف المنشود الذي هو إقامة وتوسع وتكثيف وديمومة سيرورة استغلال ذهنية العامة من جانب هذه الفئة (التلقينية الذئبية) لكن، الوعي الرصين قد أثبت وما برح يثبت اليوم وفي قادم الأيام أن التّماس بين هذه الفئة وذاك الوعي قد تجسد في سيرورة تفكيك البنى المعرفية المستهلكة من جهة وفي ظهور بنى معرفية مضادة من جهة أخرى تميز بين الغث والسمين، الانحلال والرصانة، الكلام الشفاهي وعملية التدوين أو الاكاذيب والحقائق .
لن يغيب عن بال المستعار ان ممارساته الذئبية تلك يجب أن تميل بوجه عام نحو تقليص نفوذ الذات وتفكيك المعرفة لا أن تكون الذات من أشد وسائل التعرية، فقد كان إدراجها، وأعني ذاته القلقة المزدوجة، فيما يكتب من تخرصات خرافية إنشائية بعيدة كل البعد عن الأصالة الفكرية الأدبية هو المحور الأساسي والرئيسي لسياسة المستعارين، والذي فرضته أيضاً مستلزمات الجهل كوسيلة لتسقيط الآخر، التي هي دائماً حافة الفكرة وفي الوقت عينه السبيل الوحيد للانتقام والثأر لأجل إخضاع بعض البنى المعرفية ولهذه الشدة بؤرة محددة، ولها أيضاً قدرة على تفتيت علاقات المعرفة أو الفكر التي تؤلف عائقاً في وجه التغلغل البدائي الذي يمكن أن نصفه بالمؤسسي أو العائد من رحلة خائبة ضالة تحمل معها مضاعفاتها وأحباطاتها وأزدواجيتها .
هناك فكرة مماثلة نود أن نعكف عليها كي نرى عدم تناسيها أو التغاضي عنها مع ما نحاول تبيانه : صادفنا هذه الفكرة في بعض الكتابات النقدية الرصينة التي تشغل الحيز الفاصل بين تشكيلين، الفكر والمعرفة، تحددهما الملامح المميزة للتداخلات المعرفية البحثية التي تؤطرها بالمعنى الفكري الدقيق الصارم غير المتكئ على التناص عن طريق الاكتمال والإنفتاح على الماضي والمستقبل من جهة ولتوقف هذه السيرورات العنفية المفسدة التي أخذت تستقر وتوهن وتفسد بعض سيرورات المعرفة المتجددة من جهة أخرى على أن الفرق بين هذا الاسلوب وبين الآخر المستعار هو الحاضنة الفكرية النقدية المعنية بالدرجة الأولى بأساليب التطور والتحاور الحضاري للانتقال إلى أقصى درجة من السمو الروحي، هذا السمو يجعلنا نترفع عن قراءة أو محاورة المسوخ التي باتت مدركة لدورانها المفزع حول الفراغات اللامتناهية، ولعلها قد نسيت أو تناست تطور وسائل الاتصال والتوصيل والتواصل داخل هذا العالم الذي يشبه القرية الصغيرة التي يستطيع من خلالها الإنسان أن يتفاعل مع الحياة بمنتهى البداهة .