22 ديسمبر، 2024 8:22 م

“العناصر التراثية في قصص محمد نفاع” دراسة جديدة للكاتب نصر خطيب

“العناصر التراثية في قصص محمد نفاع” دراسة جديدة للكاتب نصر خطيب

وصلني من الصديق الشاعر والكاتب الباحث الأستاذ نصر خطيب، ابن قرية بيت جن المتربعة على صدر الجليل الأعلى، كتابيه الصادرين حديثًا عن دار “الحديث” للطباعة والنشر في عسفيا، لصاحبها الشاعر والناشر فهيم أبو ركن، الكتاب الأول بعنوان “العناصر التّراثية في قصص محمّد نفّاع”، والثاني ديوان شعري يحمل عنوان “شوق ترويه حبّات المطر”، وفي هذه المقالة أتوقف مع دراسته الأكاديمية عن الأديب الراحل محمّد نفّاع، وفي القريب العاجل سوف أتناول ديوانه الشعري.

جاء الكتاب في 156 صفحة من الحجم الكبير، وبطباعة أنيقة، وتصميم بديع، وكتب في الإهداء:” لذكرى كاتب قدير، أعطى الكثير لشعبه، دون مقابل، عسى ولعلّ أن أكون قد وُفِّقتُ في إلقاء الضّوء، ولو على زاوية صغيرة من قيمته الأدبيّة، لتنير الطّريق لمعرفته بعد مماته، لأنّه لم يأخذ حقّه، كأديب عالميّ، حتى في بلدته.. ولعائلته الصغيرة الّتي تستحقّ كلّ الخير. ولعائلته الكبيرة، من المعجبين بأدبه الخالد، ويودّون دراسته”.

قدّم للكتاب الأديب سعيد نفاع فأشار في كلمته إلى أن نصر وفق في هذه الدراسة بشقيها، المعلوماتي العام، والذي أضاف لنا فيه الكثير في أبواب أدبية شتى طرقها في طريقه للوصول لمحمّد نفّاع وعناصر أدبه التراثية، والشق الدراسي بإثبات ما أراد من عنوان الدراسة العناصر التراثية في قصص محمّد نفّاع، كاشفًا لنا جانبًا أخر في إبداعه.

وتكمن أهمية الدراسة كونها تتناول بالبحث والدراسة والتحليل إبداع واحد من أبرز وأهم كتاب السرد القصصي الفلسطيني، الذي استطاع إرساء قاعدة متينة لهذا اللون الأدبي بنكهة شعبية وقروية فلسطينية. وتتركز الدراسة على العناصر التراثية الموجودة بزخم في أدبه، فيعرّفها ويسهب فيها، مع إدراج النماذج والأمثلة من القصص المختلفة القديمة منها والجديدة.

ويشير نصر في الاستهلال إن سبب اختياره لهذا الموضوع تحديدًا هو إعجابه الشديد اولًا، بشخصية الكاتب، وثانيًا بأسلوبه، ولغته المتميّزين في قصصه، وثالثًا إيمانه بعدم وجود كاتب في العالم العربي استطاع أن يصور القرية العربية، كما صوّرها محمد في قصصه، ورابعًا اقتناعه بأن ما جعل الأديب محمّد نفّاع في مصافي الأدباء، هو التزامه وصدقه في نقل اللغة والتراث العربي، من خلال قريته.

وبخصوص منهجية البحث ينوّه نصر خطيب إلى طريقتين اعتمد عليهما، الأولى الحقل، حيث أجرى مقابلة شخصية مع الكاتب محمّد نفّاع، والثانية نظرية أتبع فيها الأسلوب التّحليليّ.

يتكون الكتاب من فصلين، النظري والتطبيقي، وفي مستهل الفصل النظري يقدم نصر نبذة عن أدب الأقلية العربية الفلسطينية، مؤكدًا على أنه أدب ملتزم، والتزامه يعني أنه أدب أيديولوجي، والأيديولوجيا التي نعنيها لا تقتصر على السيّاسة، وإنما يتخطّى ذلك إلى قضايا اجتماعية وفكريّة وإنسانية متشعبَّة، مبيّنًا أن أهم الموتيفات في أدب هذه الأقلية هو الحفاظ على التراث والجذور، خوفًا من تأثر الجيل بالثقافة الغربيّة، وصدًا لمحاولات الأكثرية بطمس هذه الهوية، وهذا إبداع فكري.

وبعد ذلك يأخذنا إلى السيرة الذاتية للكاتب محمّد نفّاع، فيعرفنا على مولده وحياته الشخصية ودراسته وعمله ونشاطه السياسي والحزبي والاحتراف في إطار الحزب الشيوعي، وعلى ثقافته، وأهمية الكتابة في نفسه، وطقوس الكتابة لديه، ويعرض للقيم التي ميّزت كتاباته، مدونًا ومسجلًا ما قاله نفّاع: “أما القيم والمميزات لإنتاجي الأدبي فاعتقد أنّ من ضمنها أصالة اللّغة، والّلهجة والموضوع، والواقعيّة الاشتراكية، والاعتماد على التّراث الشّعبي، والرّسالة التّقدّمية الإنسانيّة، بعيدًا عن العنصريّة، والانغلاق، والإفادة من تراثنا العربيّ العريق، والإنسانيّ، وإبراز حياة القرية بنكهتها الرّائعة والعلاقات، والطّقوس الاجتماعية بتنوّعها، وبإن الأرض والتمسك بها والدفاع عنها، هي النسيج العام”. ثم يسجل مؤلفاته، ويتحدث عن إسهامه الأدبي، ذاكرًا أنّ محمّد نفّاع كان الأكثر غزارة بين روّاد الأدب الّذين حملوا هموم شعبهم، متصديًا للسّلبيات يشدُّ أزر كلّ إيجابيّ متمسّكًا بلغته العربيّة، مسخّرًا مفرداتها وثروتها اللّغوية في قصصه ومجمل كتاباته المتميّزة بطابعها القرويّ الجبليّ، واضعًا نصب عينيه خدمة الأدب والقضيّة السّياسيّة الّتي أمن بها وما إليها من رسالة اجتماعيّة ومواقف وطنيّة ونهج إنسانيّ تقدميّ، رهن حياته في سبيلها حتى أيامه الأخيرة”.

ويستشهد نصر خطيب بأقوال وشهادات عدد من الأدباء والنقّاد الذين تناولوا تجربة نفّاع الإبداعية لدعم أرائه ومواقفه وقراءاته وإبراز العناصر التراثيّة في قصصه.

وفي الفصل التطبيقي يحلّق نصر خطيب في فضاءات محمّد نفّاع وأجواء قصصه ويسبر اغوار كتاباته الإبداعية، ويستجلي مميزات هذه القصص، حيث يلجأ للفكاهة، والاستطراد الذي قد يطول إلى صفحات كاملة، والحس المستمر بوحدة الحاضر والماضي، وتوظيف اللغة المحكية في السرد والحوار، ثم يتناول الإبداع في العناصر التراثيّة في أدبه، حيث أبدع في تصوير قريته ومناخها البارد بثلوجه وأمطاره، ووصف نهج حياة الإنسان القروي، ونقل العادات والتقاليد الاجتماعية المتعارف عليها، فضلًا على توظيف الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة والأغاني الشعبية والدعوات والتمنيات، وكل هذه السمات والمميزات يتطرق إليها نصر ويتحدث عنها بالتفصيل الدقيق ويستشهد بنماذج من القصص، ويخلص إلى القول أنه بعد الغيض من الفيض من العناصر التراثيّة في قصص نفّاع، فقد برز في عنصرين هامين جعلاه يتربّع في قمّة الإبداع، وامتاز فيهما، بل تفرّد، وهما: توظيف العناصر التراثية كهدف، وكوسيلة، وتوظيف اللغة المحكية في هذه العناصر كهدف، وكوسيلة، موضحًا أن نفّاع لو خرج من هذين العنصرين لأصبح كاتبًا ككلّ الكتاب بدون هذا التميز الإبداعي الفذّ.

ويصل نصر خطيب إلى الاستنتاج أنه قد عالج في دراسته التعليمية جانبًا هامًا وبارزًا في أدب الكاتب العربيّ محمّد نفّاع، وهو الجانب التراثي فيه، ولمس وجوده في هذا التراث في كل قصّة وقصّة من قصصه، وقد لمسها ورآها وتذوقها وشمها وتلذذ بها، وذلك لبراعته وإبداعه بتصوير القرية ومحيطها، بصورة متقنة ودقيقة باستعمال الكلمات المناسبة واللغة المناسبة في المكان والزمان المناسبين، وإنه أمتاز بقوة تصويرية كبرى، وساهم في الحفاظ على التراث العربي القروي، وشعبه الذي يتعرّض لأعتى وأضخم هجمة تستهدف تصفية وجوده على كل صعيد. وهو يرى أن كتابات نفّاع أشبه بالشعر الكلاسيكي، وكتبه سجل ثقافي وتاريخي وأدبي وفولكلوري.

وفي المحصلة الأخيرة يقول نصر خطيب أن محمّد نفّاع لم ينزل عن جرمقه على مدى ستة قرون ونيف، ويتساءل: وكيف ينزل من يتربّع على القمة، ولماذا ينزل!

وفي ملحق لدراسته يكتب نصر صورة قلمية يستهلها بقوله: “عُيون سمراء تلّونت من تربة الأرض الجبليّة الّتي طالما رفعتَ قلمك سلاحًا يذود عنها. ولسان حادٌّ أطلق ترسانة من الكلمات الخالدة، مُدافعًا عن حقوق شعبنا الأشمّ. وجبهة تتجول حقولَها همساتُ أجدادنا، وتزهر فيها مواقع، ونباتات، وشخصيّات، وحكايات، وتاريخ وطننا. حتّى صرت خريطة له.

أنت “عروة” في عطائك، وهنا تتجسّد إنسانيتك. بيراعك رسمتَ تاريخ شعبك، وهنا قمة إبداعك. وألّا تنزل عن صهوة الجرمق، والرّماح تستقطبه، ترسيخ لصمود الزّابود ودندنة حصى الوادي، وتناويح أم يوسف، وندب أبي شوقي، ومواويل أبي ماجد، وشبّابة حامد.

ويختتم قائلًا: “كانت قصصه النّاطقة بعادات، وتراث الأجداد، مثل رقاع الثّلج الأبيض النّاصع، ملحًا – كما قال أجدادنا- ينقّي الأرض من الأمراض والجراثيم، بذورها امتصّت خصوبة أرض بيت جن، فارتفعت أغصانها الغضّة اليانعة لتعانق قمّة “الدّيدبة” و”حيدر” و”جبلة عروس” و”الجرمق”.. لتطعم كلّ محب لهذه القرية الأبية. فلتبق في القمّة، في الجرمق يا أبا هشام”.

إنه جهد مبارك وعمل بحثي متكامل ودراسة جادة وهامة أنجزها الباحث نصر خطيب، وتستحق القراءة والاهتمام والمتابعة، فهي تلقي بظلالها على أدب الكاتب الأصيل الملتزم الراحل محمّد نفّاع، كواحد من مبدعينا الكبار في مجال القص السردي، وتشكل الدراسة إضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية في مجال البحث والنقد الأدبي.

إننا نحيي الصديق الأستاذ نصر خطيب على مجهوده ومنجزه الهام، ونبارك له صدور كتابه القيّم، ونرجو له المزيد من العطاء الجاد، والشكر على هديته المقدرة.