حينما وقعت بين مخالب البعث عامي (١٩٨٠ و ١٩٨٤) خضعت لشتى انواع التعذيب والألم. كان كل أملهم أن يحطموا انسانيتها، ويكسروا معنوياتها، لكن الذي حصل كان العكس، فقد انتصرت عليهم بصبرها وثباتها، وتفوقت على ارهابهم بأن عاشت فيما نظامهم ذهب للجحيم، والأكثر من هذا انها تعيش اليوم مناصرة لقضايا المرأة العادلة في المساواة والعيش الكريم والأحترام. تعمل ليل نهار حتى يصبح العراق بلدا يكون فيه القانون سيد المشهد، وأن ينعم أهله بالحياة الحرة الكريمة. خاضت تجربتها الأخيرة مع النازحين والناجين من ارهاب (داعش) وتعمل مع العديد من المنظمات لمساعدة النساء (الأيزيديات وغيرهن) ممن تعرضن للأغتصاب بغية إعادة تأهيلهن للحياة العامة، وهي تبعث برسالتها لكل العراقيات والعراقين بأن ينتصروا لأنسانيتهم ويقدموا ما في وسعهم للتخفيف من آلام العوائل التي شُردت من قراها ومزارعها وتعيش حياة صعبة في المخيمات.
****
كان منظر النساء والأطفال اللاجئين كاف لأن يجعل الصخر ينفجر، فكيف بالأنسان، هكذا تبدأ السيدة ماجدة الجبوري الناشطة في مجال حقوق الأنسان حديثها عمّا تمكنت من تقديمهُ لخدمة الأنسان العراقي وتضيف: حين قررتُ العودة الى كردستان العراق، رغبتُ أن اكون في قلب الحدث، وهذا ما تم فعلا في كانون الأول 2014 الماضي. فور عودتي أجريت ُ اتصالات مع (هيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق) إذ اعملُ عضو فيها، و بدأتُ العمل مباشرةً مع نخبة طيبة اذكر منهم (نرمين عثمان، نهاد القاضي، كامل زومايا، دانا جلال، راهبة الخميسي، زهير كاظم عبود، نور نجدت، وثم التحق بنا د. كاظم حبيب) فأطلقنا صرخة اسميناها ـ اليوم العالمي لأنقاذ سنجار ـ حيث كان عالقا في جبل سنجار آنذاك ما لايقل عن (١٠،٠٠٠) مواطن ايزيدي ، مترابطا بما تعرّض له ابناء هذا المكون من قتل وتشريد وأغتصاب ومن ثم اخذ النساء والبنات كسبايا حرب. هذا المشهد المؤلم دفع بالكثير من الناشطين في العراق وحول العالم للتحرك ووضع الرأي العام العالمي امام مسؤلياته بعدما (عجزت) الحكومة العراقية والمسؤولين والمعنيين من القيام بعمل حقيقي ملموس. ثم تكمل السيدة ماجدة: بدأنا حملة مكثفة في اوربا، وبعثنا برسائل الى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات، والأتحاد الأوربي ومؤتمر بروكسل، وتمكنا من تحشيد حوالي (٤٠٠) منظمة دولية واقليمية وعربية لدعم نشاطنا. عقب ذلك، حققنا وقفات احتجاجية يوم ٩ ـ ١٢ ـ ٢٠١٤ في كل من أربيل والسليمانية ودهوك، وقد شارك فيها مسؤولين وقضاة وناشطين
وأساتذة جامعات. اُرسلنا إثرها مذكرات الى حكومتي المركز والأقليم والبرلمان ومكتب الأمم المتحدة والمحكمة الأتحادية .
وللوقوف على الغرض من هذه الوقفة والعرائض الأحتجاجية قالت السيدة ماجدة: بالحقيقة كان هدفنا الرئيسي الضغط على حكومتي المركز والأقليم لتخليص الناس المحاصرين في (جبل سنجار) وايجاد ممر آمن لهم للخروج من هذه المحنة، بعد أن علمنا بأن هناك سيدات قد توفيّنَ اثناء وضعهن للمواليد الجدد في ظل هذه الظروف، وكذا الحال مع كبار السن والمرضى من رجال ونساء، لقد كان المشهد مأساوياً. وبالحقيقة كانت عندنا مجموعة من المطالب منها: السعي لتوحيد الجهود الدولية لدحر داعش، توفير الأحتياجات الأنسانية من طعام وماء وملبس وأدوية وحفاظات للأطفال، ايصال وسائل ايواء لهذه العوائل مثل الخيم والكرافانات، ايصال قوات حماية لوقف تهديدات (داعش)، توفير ممرات آمنة للعوائل العالقة، ثم القيام بتهيئة قاعدة بيانات ومعلومات تلك التي تُمكن من ربط العوائل مع بعضها من جديد وتُسهّل البحث عن المفقودين، ناهيك عن ضرورة معالجة حالات الخطف والأستباحة والأغتصاب الذي تعرضت له نسبة عالية منهن. ان ما جرى لأبناء الطيف الإيزيدي والمسيحيين والمندائيين والشبك، تعتبر جرائم ابادة ويجب ايقافها وتقديم الجناة للعدالة.
وعندما سألت الناشطة ماجدة الجبوري عمّا إذا كانت هناك نماذج استجابة ملموسة فقالت: إن المصيبة كبيرة، انها مهمة يجب ان تنهض بها دول. أما جوابي على السؤال: (نعم)، كانت هناك استجابات (لا أقول نتيجة عملنا فقط، لكن ربما كجزء منه) أذ تشكل التحالف الدولي، وبدأ بتوفير الغطاء الجوي للممر الآمن وفك الحصار عن (جبل سنجار) كذلك في توفير الخيم والكرافانات وبعض المؤون الضرورية، لكن تبقى المشكلة أكبر. فالسؤال الذي يطرح نفسه: متى يعود النازحين الى قراهم، كيف ومن سيحميهم من ارهاب قادم؟ من الذي سيعوضهم، من يعيد المفقودين ومن سيعالج المرضى والأطفال والنساء المغتصبات؟ وهناك المئات من الفتيات لازلن تحت رحمة داعش سبايا!! هذه اسئلة اوجهها الى كل سياسي حمل العراق في قَسمه حينما تسلّم المسؤولية. وتضيف السيدة ماجدة: بالحقيقة إن ما احاول القيام به (بشكل شخصي أو جماعي) هو زيارة اللاجئين المنسيين والموجودين خارج المدن، هؤلاء الذين لا تصلهم الوفود ولا المنظمات الأنسانية، ممن يعيشون في الهياكل الغير مكتملة البناء، لا كهرباء ولا ماء ولا أي خدمات متوفرة لهم، والحال هناك سئ للغاية. فعلى سبيل المثال، هناك منظر يداهمك وأنت تدخل محافظة دهوك فترى على امتداد البصر (كفن ابيض بلا حدود) عدد لا يحصى من الخيم وعلى امتداد المدى، فهناك مجمع يضم ٥٠٠٠ آلاف خيمة، و ٣٠٠٠ خيمة و٢٠٠٠ خيمة و ١٥٠٠ خيمة، هناك اكثر من ستة عشر مخيم، ومئات الهياكل. هذه الخيم والهياكل تسكنها عوائل، والعوائل مكونة من بشر ، والبشر لهم احاسيس ومشاعر وأحلام! وهذا هو واقعهم ولا يعلم احد مصيرهم بعد اليوم والى متى ستستمر معاناتهم. كنت ازورهم وأستمع الى قصصهم التي يعجز حتى الخيال
من وصفها. لقد التقيت بعدد من النازحات، اواللواتي حُررنَ من السبي، مع عوائل ماتت اطفالها من العطش، مع عجائز فقدن بناتهن اللواتي فضلن الأنتحار على العيش مع جريمة الأغتصاب والحمل من المجرمين، لقد كانت المشاهد ثقيلة جداً عليّ ، وكنت اقضي الوقت اثناء عودتي لمسكني باكية من أثر القصص التي سمعتها اليوم، فكيف الحال وانت تسمع لمثل هذه المآسي ايام وأيام.
وعندما سألتها عن نشاط الجالية في كندا وتحديدا في تورنتو قالت السيدة ماجدة الجبوري: ان كل عمل مهما يكن هو مفيد، إن كان فرديا او جماعيا، ان كان على شكل تطوع او تقديم المال او جمع المساعدات مهم، فهؤلاء النازحين بحاجة لدعمنا، بحاجة لمحبتنا وتضامننا معهم، لأن (الجهات الأخرى) قد استفادت من قضيتهم لفترة، وتركتهم جانبا، لكن مصيبتهم مستمرة لليوم. وبالحقيقة لا بد من تقديم الشكر والأمتنان للأخوة والأخوات في:
١) حملة “معاً” في كندا
٢) تيار الديمقراطيين العراقيين
٣) الجمعية العراقية الكندية
٤) البيت العراقي، وكل من شارك بمجهوده الشخصي والعام. وأشكر زميلتي العزيزة الناشطة المتميزة (ايمان بكتاش) التي لم تبخل بوقتها وراحتها لمساعدة النازحين، كما اشكر زميلاتي في الداخل (فكتوريا ونازك، وماريا، وفتحية والعشرات من النساء والرجال). لقد تمكنا من ايصال وتوزيع المساعدات ، من ملابس وتبرعات مادية، وقمت بشراء (٥٠) ماكنة خياطة مع مستلزماتها ووزعتها على النساء في المخيمات، وهي دعم وتبرع من الناس الخيرين في كندا، كما لا انسى اجمل ليلة رأس سنة قضيتها مع الأطفال في المخيمات، برفقة عدد من أعضاء هيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق، واعلاميين وناشطين، إذ اشترينا لهم الهدايا، وأنتظرنا حتى منتصف الليل، وأطفأنا النور، واشعلنا الشموع ، غنو لسنجار وقراهم، رسموا باناملهم الصغيرة بيوتهم، واحلامهم بالعودة لها، وضحكنا وفرحنا وضَمَرنا في قلوبنا الأماني للعام القادم، كنت في قمة السعادة، وكانوا هم وأهاليهم كذلك!
وسألتها ان كان ما قُدّم كافياً للتخفيف من معاناة النازحين فردت الناشطة ماجدة بالقول: لا يوجد في القاموس كلمة (كافياً) بالنسبة لمن خسر بيته وقريته وأهله وأطفاله وربما هو نفسه. الحاجة مطلوبة أمس واليوم وغدا، مطلوب منّا ان نختبر انسانيتنا و آدميتنا، وأن لا نخبئها في العلب الحديدية، المطلوب ان نتبارى بأهدافنا في تقديم الأفضل. ان اي شئ تقدمه الجاليات له الف حساب، وأنا شخصيا احيّ كل الجهود وخاصة حملة (معاً) ورابطة المرأة العراقية في دول المهجر، وتحديداً في بريطانيا وهولندا حيث وصلت مساعداتهم الى النازحين في دهوك واربيل و بغداد والحلة والعديد من المناطق، إن كانت المساعدات عينية أو مادية، كذلك احيّ الحملات الأنسانية لجمع التبرعات والمساعدات في مراكز الكثير من جالياتنا الموزعة في العالم ، خاصة في اوربا
وأمريكا وكندا واستراليا، انه عمل رائع يرفع الرأس، ويعبر حقاً عن الأنتماء الأنساني والتضامن العراقي وأدعو للمزيد، لأن المشكلة قائمة وربما تتعرض للمزيد من التعقيدات، خاصة مع انتشار امراض مثل الجرب والقمل والحساسية والجدري والكثير من الأوبئة عند الأطفال والنساء في ظل انعدام الظروف الصحية واماكن النوم الجيدة. ان الكثيرين بحاجة لعلاجات جسدية وتأهيل نفسي، تصور ان هناك اطفالاً كانوا يهربون ويختبؤن عند امهاتهم كلما سمعوا الآذان وكلمة ((الله اكبر)) التي تعيد الى مسامعهم مأساة اغتصابهم او اغتصاب امهاتهم وقتل آبائهم على وقعها، يا لها من مفارقة.
ولعلي هنا أذكر واحدة من الحوادث التي رافقت عملي في كردستان حينما ترافق وجودي هناك مع زيارة وفد كندي ضم احد اعضاء البرلمان وناشطين لتفقد اوضاع النازحين، وما تم بعد ذلك أعتبره مهماً جداً، إذ تمكنتُ من مساعدتهم بالوصول ولقاء أطفال، وفتيات نجون من مخالب داعش، استمعوا الى قصصهم المؤلمة، ومن ثم الأستفادة من قاعدة البيانات التي جمعتها حول العوائل وأيصالها الى الجهات الرسمية الكندية بغية ايجاد طرق قانونية لجلب (الناجيات) من قبضة داعش وإعادة تأهيلهن او معالجتهم جسديا ونفسيا من آثار الصدمة، وهذا الأمر يسير بشكل طيب وربما يرى النور عن قريب.
****
الناشطة ماجدة سعود مشهد الجبوري: من مواليد محافظة بابل، لعائلة فلاحية كبيرة كانت تتكون من سبعة اخوان وستة أخوات، حيث كان والدها فلاح ومن الشخصيات الوطنية والتقدمية المعروفة في منطقة الفرات الاوسط ، قارع الاقطاع، واشترك في توزيع الاراضي الزراعية على الفلاحين عام 1958 بعد ثورة تموز، كما قاوم النظام الدكتاتوري الصدامي، ولم ينحني او يهابهم يوماً، وهو حي يرزق وقد بلغ الآن (102) عاما من العمر و يسكن (قرية العمادية ـ ناحية القاسم).
دَرست الأبتدائية و المتوسطة، ولم تُكمل دراستها نتيجة تَعرضها للأعتقال والسجن لمدة سنتين عام ١٩٨٠، ثم الأعتقال عام ١٩٨٤ والحكم عليها بالسجن المؤبد لنشاطها السياسي لكن افرج عنها عام ١٩٨٦، فعادت للعمل كفلاحة. قدمت عائلتها شهيدان هما أنور سعود وكان معلماً، و أركان سعود وكان فلاحاً إذ استشهدوا عام ١٩٩١ ودفنا في المقابر الجماعية، اما الأخ الثالث كامل سعود، فقد حُكم بالأعدام هو الآخر وتعرض لشتى انواع التعذيب حتى فقد بصره بالكامل وفلت من الموت لكنه مريض القلب الآن. بعد سقوط نظام البعث وتحديدا في العام ٢٠٠٦ أُرسلت ببعثة في الأعلام الى المانيا، وبيروت. عَملت مسؤولة (صفحة المرأة) في جريدة طريق الشعب التي تصدر في بغداد، وفي (إذاعة الناس) من بغداد ايضا، وعملت في اعلام الحزب الشيوعي الكردستاني. وهي تنشط في العديد من المنظمات الأنسانية والمدنية في العراق وكندا .