بعد اليأس من مكتب الأمم المتحدة للاجئين في الأردن الذي رفضنا أنا والصديق خالد مروان ، إقترح خالد بوصفه بحارا سابقا الذهاب الى ميناء العقبة ومحاولة التسلل الى إحدى السفن والسفر ثم طلب اللجوء في إحدى الدول ، فاجأني الإقتراح ، فمثل هذه الخطوة بحاجة الى مخاطرة وتهور ، وقد تكون تكلفتها باهضة وقاسية ، حدثت خالد بهذا الأمر ، ورد عليّ قائلا ً:
– ما الذي سنخسره ، نحن حاليا نعيش تحت الصفر من حيث الإفلاس واليأس ، وجحيم العراق من ورائنا ، وليس أمامنا إلا المخاطرة .
بقيت مترددا خائفا من النتائج ، وأخذ خالد يضرب على وتر إنسداد الأبواب أمامنا ، وليس لدينا خيارات أخرى ، وهذا ليس وقت الحسابات المنطقية ولا مفر من المجازفة ، أخرجت القرآن الذي أحمله في جيبي وكنت أنظر إليه بإعتباره الملاك الحارس لي من الضرر والشر ، والجالب للبركة والخير ، أخبرت خالد إني أعتمد في تحركاتي وقراراتي على نتيجة الاستخارة بالقرآن .
سألني خالد :
– كيف سيعرف القرآن أنك مسافر الى العقبة وتريد التسلل الى الباخرة ؟
– الدين غيب والقرآن مرتبط بالغيب والله يعلم بكل شيء والقرآن قال : (( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)).
ظهرت ملامح الغضب على وجه خالد وعلق :
– إن كان الله يعلم بكل شيء .. لماذا لا يساعد البشر وينهي عذاباتهم ومآسيهم .. كيف يكون عالما وقادرا على كل شيء ، ورحيما ويحب مخلوقاته ، ويدعهم يتعذبون في الحياة ؟
– الدين لايقاس بالعقل المجرد ، الدين تسليم بالغيب ، والله هو أدرى بالمصلحة لديه حكمة في كل شيء .
كانت إجاباتي حاضرة من دون تفكير اغترف من اليقينيات والمبررات الدينية الجاهزة ، بعد إهداري وقتا طويلا في قراءة تفسير (( الميزان في تفسير القرآن )) المكون من عشرين مجلدا ، وصلت الى أخطر مرحلة فكرية في حياتي ، أصبحت مهوسا في (( أسلمت كل شيء )) والبحث عن تأصيل كافة شؤون الحياة في القرآن والسنة وأحاديث الأئمة الأثمى عشر ، وشروحات رجال الدين ، توهمت أني أمسكت بالحقيقة النهائية ، والمشكلة ان المتدين لا يسأل عن النتائج مهما أخفقت قناعاته وتفسيراته ، وساءت ظروف حياته وتدهور الواقع المحيط به ، فهو مطمئن الى جائزة ما بعد الموت ودخول الجنة ومغرياتها .
سايرني خالد مروان وتوقف عن النقاش ، كان نبيلا يضع العلاقة الإنسانية والحفاظ عليها أهم من النقاش والإنتصار فيه حتى لو كان هو على حق ، بعد قراءة دعاء الاستخارة فتحت القرآن فإذا به يظهر سورة نوح ، قفزت من الفرح وصرختُ : (( البشارة )) وأخبرت خالد ان سفرتنا موفقة ونجاحنا مؤكد بحسب نتيجة الإستخارة .
بعد وصولنا الى ميناء العقبة ، كانت الإجراءات الأمنية مشددة ولا مجال للتجوال وإختيار سفينة معينة والإختباء داخلها ، عدنا سريعا الى عمان ، وكان حزننا على خسائرنا المالية ونحن على شفا الإفلاس أكثر من الحزن على فشل المحاولة ، كان خالد ينام مع أصدقاءه مجانا ، وأنا أنام في ممر إحدى البنيات التي يحرسها شخص عراقي تعرفت عليه توا ، وأثناء بحثي عن عمل حصلت على فندق يريد عامل لكنه لا يدفع أية أجور مطلقا العمل فيه مجاني ، فقط يسمح لي أثناء العمل ببيع الشاي على النزلاء لمدة نصف نهار وليس نهارا كاملا وأثناء العمل الذي كان من الصباح لغاية الساعة 11 ليلا ، كان صاحب الفندق شخصا متوحشا بمعنى الكلمة ، وكنت مضطرا أمام رعب الإفلاس ومعاناة النوم في ممر العمارة على الموافقة!
زارني خالد في الفندق وشاهدني أعمل في تنظيف التواليت .. خيم الصمت عليه ، وتغير لون وجهه ، كأنه طُعن في مقتل ، خالد إنسان متطور أخلاقيا وإنسانيا من المؤسف خُلق في مجتمع متخلف كالمجتمع العراقي فهو أكبر من هذه المجتمعات ، لقد تشبعت روحه بالموسيقى وقراءة الأدب والفلسفة ، وقيم إحترام الذات .
حاولت تهدأته :
– عزيزي خالد العمل شرف .
صرخ بي ورد بعنف :
– العمل ليس شرفا ، بل هو بيع العمر بالمال ، العمل هو ضريبة عشوائية الوجود وهبوط البشر في جحيم حياة هم لم يختاروها وتُركوا يتدبروا شؤونهم ومصيرهم ، البشر لم يخلوا لتأدية أية وظائف محددة ، لكن الضرورة أجبرتهم على العمل مثل الحشرات والحيوانات من أجل العيش ، ولو كانت توجد قوى إلهية عاقلة خلقتهم من الواجب والعدل يحتم عليها توفير سبل العيش والراحة ، لكن مثلما صدقنا أوهام الأيديولوجيات والأديان ، والمقولات المثالية ، كذلك صدقنا مقولة : العمل شرف ، لماذا أهدر عمري وراحتي في العمل ثم أجد بعدها الموت ينتظرني على عتبة الباب ؟!