(مجلس مفوضية الانتخابات انموذجاً)
ان الاحتجاجات التي خرج بها الشعب العراقي في الانتفاضة التشرينية، والتي مثلت رد الفعل تجاه الفساد الإداري والغلو السياسي للأحزاب والشخصيات التي هيمنت على مقدرات البلاد للسنوات التي تلت عام 2003 ، وكان من اهم مطالبها وجود نظام انتخابي جديد يضمن نزاهة العملية الانتخابية ويمنع سرقت أصوات الناخبين او تجييرها لأشخاص معدودين بعينهم، لان حجر الزاوية في عملية الإصلاح في العراق هو وجود قانون انتخابات منصف وعادل يوفر للمواطن فرصة التمتع بحقوقه السياسية الدستورية الواردة في دستور عام 2005 النافذ، وعلى اثر ذلك صدر قانون الانتخابات الجديد رقم 9 لسنة 2020 الذي كان امل الجماهير في تغيير منظومة العمل التشريعي، التي تعد أساس لكل تغيير في واقعانا المزري، لكن بعد ان تم التصويت على اغلب فقراته باستثناء بعضها وهي المفصلية في عملية التغيير فإنها تأخرت كثيرا ولأشهرٍ عدة، وخلال هذه الفترة تم امتصاص الغضبة الجماهيرية ومن ثم تمرير ما كان يحفظ للجهات المنتفعة مصالحها، لذلك فان هذا القانون لم يكن بمستوى الطموح وقد أشرتُ إلى ذلك في اكثر من مناسبة، وحاول أصحاب القرار السياسي والتشريعي ان يضفوا المشروعية على ما سيحصل فعمدوا إلى جعل إدارة مفوضية الانتخابات من القضاة، وعلى وفق أحكام المادة (3) من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وجاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون (بغية إجراء انتخابات حرة نزيهة يطمئن لنتائجها الناخب، وضمانا لشفافية اكبر وانسجاما مع التوجيهات الإصلاحية التي طالب بها الشعب)، ثم بعد ذلك اتخذ القرار المشوه دستورياً بإجراء الانتخابات المبكرة وقبل انتهاء مجلس النواب بأشهر معدودة، وفعلا جرت الانتخابات، وتحت إدارة قضائية تتكون من سبعة قضاة واثنان من المستشارين في مجلس الدولة وهم من قضاة القضاء الإداري، لكن ما حصل قبل وبعد إغلاق صناديق الانتخابات في يوم 10/10/2021 كانت فيه أخطاء فادحة، وقعت بها إدارة المفوضية ممثلة بمجلس المفوضين، سأذكر بعضها وعلى وفق الاتي :
منع شرائح كبيرة جداً من أبناء الشعب العراقي المؤهلين لممارسة حقهم في الاقتراع بموجب الدستور ، وذلك من خلال منع انتخابات العراقيين في الخارج، ودون أي مسوغ دستوري بل على عكس وخلاف النصوص الدستورية النافذة وكذلك منع منتسبي الحشد الشعبي من ممارسة حقهم في الاقتراع عبر التصويت الخاص إسوة بأقرانهم من منتسبي القوات المسلحة لانهم جزء منها، وهذا من اهم خروق الدستور عندما خالفت إدارة المفوضية نصوص المواد الدستورية التي تضمن لهم الحق في التصويت ومنها المادة (20) من الدستور النافذ التي جاء فيها الاتي (للمواطنين رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح).
التخبط في إعلان النتائج وسوء التقدير في عرضها للجمهور مما ادى الى ارباك المشهد الانتخابي والوصول إلى الحال الذي نحن فيه الآن من احتجاج واعتراض وغير ذلك.
ومن خلال ما تقدم ذكره ارى الاتي :
هذه الأخطاء في العمل ناجمة عن عدم توفر القدرة الإدارية لدى القائمين على الشأن الانتخابي، ووجود القضاة على رأس الهرم لا يمكن ان يعالج الأخطاء الإدارية لان للإدارة فنون واصبح من اهم العلوم التي تدرس في الجامعات العالمية، ويجب على من يمارسها ان يكون ملما بالمبادئ الأساسية للإدارة وكذلك ملماً بالمبادئ والخبايا الموضوعية المتعلقة بالنشاط الذي يتولى إدارته، وتشير الدراسات المتعلقة بالإدارة الانتخابية بان كل ضعف تنظيمي عائد إلى قلة الاحترافية قد يحمل الناخبين على التشكيك في الالتزام بمبادئ الاستقلال والحياد لدى المفوضين ، ويثنيهم عن المشاركة في الانتخابات المقبلة. لذلك فان ضرورة إضفاء الطابع الاحترافي على العمليات الانتخابية دفعت وجود العديد من مؤسسات التدريب المتخصّصة، على المستويين الوطني والدولي، وكان أعضاء مجلس المفوضين السابقين قد تلقوا تدريبات مكثفة حول ذلك، ومن خل العرض أعلاه فان عمل القضاة في المفوضية لم يكن عملاً قضائياً وإنما إدارياً كاملاً، ولا يمكن صرف الأخطاء الإدارية في الأداء إلى إنها أخطاء قضائية، لان العمل القضائي الأساسي الذي يتولاه القاضي هو الفصل في المنازعات التي تعرض أمامه، وهذا العمل يشترط له مبادئ ستة اقرتها المواثيق الدولية ومنها وثيقة بانكلور للسلوك القضائي التي أقرتها الأمم المتحدة عام 2001 وهذه المبادئ هي ( الاستقلال، الحياد، النزاهة، اللياقة والسلوك المنضبط، الكفاءة، والالتزام بالمساواة بين الجميع) وهذا انعكس على سلوك من يتولى المناصب القضائية وتجده منعزلاً بشكل نسبي عن المجتمع الذي يعيش فيه، وغير قادر على التعبير عن أفكاره، وليس له مخالطة الخصوم وغيرهم، وتكاد تكون حياته في عزله من اجل الحفاظ على ثقة الناس بالقضاء وخلق الطمأنينة لهم ومنع من ممارسة العلم السياسي بموجب الدستور في المادة (98/ثانياً) من الدستور التي جاء فيها الاتي (يحظر على القاضي وعضو الادعاء العام ما يأتي: ثانياً:- الانتماء إلى أي حزبٍ أو منظمةٍ سياسية، أو العمل في أي نشاط سياسي) ، لكن زج القضاة في اتون ومحرقة السياسة هو إضرار بالعمل القضائي لأنه بلا ادنى شك سيناله منها ما يثلم نزاهته ، ولمسنا ذلك في ما جرى بانتخابات عام 2018 عندما زج بالقضاة في تولى الإدارة المؤقتة لمجلس المفوضين مع وجود شبهات تزوير كبيرة أدى إلى حرق صناديق الاقتراع وأجهزة العد والفرز الإلكترونية، وما كان على القضاة إلى التعامل مع ما متوفر والذي هو في الأصل محل طعن وتشكيك، وما زال البعض يكرر القول بان القضاء اسهم في تمريرها واضفى عليها المشروعية مع من شبهات التزوير تحوم حولها، والان أيضاً سمعنا بعض الأصوات التي تحاول ان تحمل العمل القضائي مسؤولية العمل الإداري لان من قام بالإدارة هم القضاة، وهذا غير صحيح لان عمل مجلس المفوضين ليس له علاقة بالعمل القضائي إطلاقاً وإنما من تولى الإدارة فيه من القضاة، وانتفت عنهم صفة العمل القضائي منذ لحظة توليهم مهامهم في المفوضية.
ان زج القضاء في مثل هذه المواقع ذات البعد السياسي هو عمل تشريعي غير موفق إطلاقاً ويتعارض مع مهام العمل القضائي فضلا عن مخالفة دستورية صريح للمادة (98/اولا) من الدستور التي حظرت الجمع بين العمل القضائي واي عمل تشريعي أو تنفيذي أو أي عمل اخر وعلى وفق النص الاتي ( يحظر على القاضي وعضو الادعاء العام ما يأتي: أولاً:- الجمع بين الوظيفة القضائية، والوظيفتين التشريعية والتنفيذية، أو أي عملٍ آخر)، فضلاً عن احتكاك القضاء بالأحزاب والكتل السياسية والمشاركة في الاجتماعات ذات الصبغة السياسية وهذه كلها أعمالها ترفضها قواعد السلوك القضائي ، لان القاضي مهما ارتفع في موقعه القضائي او تدنى فان العم السياسي محظور عليه، والعمل السياسي لا يقف عند إبداء الرأي السياسي، بل أحيانا هذا لا يعد عملاً سياسياً وإنما حرية التعبير عن الرأي الذي كفله الدستور وإنما، والعمل السياسي يكون بصورة أخرى منها المشاركة في القرار السياسي أو الاشتراك في الاجتماعات ذات الصبغة السياسية ، وحتى اللقاء بالشخصيات السياسية المحلية والأجنبية ويشير المختصون في علم السياسة إلى ان العمل السياسي هو العمل الذي يشارك في التأثير على الجمهور من خلال التأثير على صنع القرار السياسي أو الشخص الذي يؤثر على الطريقة التي تحكم المجتمع من خلال فهم السلطة السياسية وهذا يشمل الأشخاص الذين يشغلون مناصب صنع القرار في الحكومة، لذلك كان على المشرع ان يلتزم بما اعلن عنه مجلس القضاء الأعلى في قراره المتخذ في جلسته السادسة عشر لعام 2019 المنعقدة بتاريخ 15/12/2019 حينما رفض زج القضاء في مثل هذه المواقع وعلى وفق القرار الاتي (ناقش المجلس دور مجلس القضاء الأعلى على ضوء صدور قانون مفوضية الانتخابات وبين المجلس انه في الوقت الذي يبدي المجلس تحفظه على إشراك القضاة في مجلس مفوضية الانتخابات وسبق وان تم اعتراض المجلس في حينه أثناء المناقشات التي سبقت إقرار القانون وإبداء الرأي بعدم مشاركة القضاة في أعمال تنفيذية وإشرافية في مجلس مفوضية الانتخابات وان يقتصر دور القضاء على النظر بالطعون التي تقدم على قرارات مجلس مفوضية الانتخابات من خلال الهيئة التمييزية في محكمة التمييز إلا إن وجهة نظر مجلس القضاء الأعلى لم يتم الأخذ بها لذا ومع صدور هذا القانون الواجب التطبيق من قبل جميع الجهات المعنية به ومنها القضاء فقد ناقش مجلس القضاء الأعلى آلية تنفيذ القانون واختيار القضاة وأعضاء مجلس الدولة في هذا المجلس وتقرر مفاتحة مجلس القضاء في إقليم كوردستان لترشيح عدد من السادة القضاة من الإقليم لإجراء القرعة في مجلس القضاء الأعلى واختيار اثنين منهم ، كذلك مفاتحة مجلس الدولة لترشيح عدد من المستشارين ليتسنى لمجلس القضاء الأعلى اختيار اثنين منهم ، كذلك الطلب من رئاسات محاكم الاستئناف في جميع المحافظات ترشيح من تتوفر فيه الشروط المنصوص عليها في القانون تمهيداً لإجراء القرعة واختيار خمسة منهم وبحضور ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ووسائل الإعلام التي ترغب بالحضور).