22 ديسمبر، 2024 4:26 م

العمل الإنساني التطوعي في اعراف العراقيين

العمل الإنساني التطوعي في اعراف العراقيين

يعد العمل التطوعي من الظواهر الاجتماعية القديمة ـــ الحديثة، تميزت بها عدد من المجتمعات، وهذا التمييز راجع الى خصوصيات واعراف كل مجتمع، وقد تختلف هذه الأعراف من مجتمع الى أخر، ويبرز العمل التطوعي الإنساني عند العراقيين مع ظهور الازمات الإنسانية وفي بعض المناسبات الدورية، كما انها قد تبرز في حالات فردية قد لا تنحصر في اطار جغرافي محلي داخل البلد، وهذا ما يلاحظ في بعض الاعمال الإنسانية التي يقوم بها العراقيين اثناء سفرهم الى بلدان اخرى اذ يقدم الفرد العراقي هناك المساعدة على الصعد المادية واحيانا البدنية اذ ما تعرض شخصا ما الى مساعدة او حادثا معين، او حتى اعتداء في اطار ما يعرف بالأعراف المجتمعية الشعبية العراقية بــ((الفزعة)).
وعلى سبيل الاعمال التطوعية الجماعية تبرز هذه الظاهرة عند العراقيين في أوقات معينة حينما يشعرون ان هناك مازقا قد يحصل في حال تخلفهم عنه، وعلى سبيل الاستشهاد حول ظواهر العمل التطوعي حيث برز ذلك حديثا بعد وقوع حادثة جسر الائمة المأساوية وهي الحادثة التي تتزامن من حيث التاريخ مع انتشار فايروس كورونا العالمي، وقد تسببت حادثة جسر الائمة بسقوط عدد كبير من الضحايا والجرحى اثر التدافع الذي حصل بفعل الخوف من التفجيرات الانتحارية بين الزائرين عند اشاع نفراً ما ان هناك انتحاريين بين الجموع ينوون تفجير انفسهم، شائعة سرعان ما انتشرت بين الجموع اذ ان التفجيرات الإرهابية كانت تطال المواطنين كل يوم في بغداد وبعض المحافظات، حيث انبرى بعد الحادثة مباشرة اعداد كبيرة ومن مختلف المحافظات بالتبرع المادية الطوعي لضحايا والمصبين بالحادثة وهم بالمئات واستمرت لما يقارب أسبوعين.
وبرز العمل التطوعي التأخي في شاهد ثاني اثناء عملية تحرير مناطق غرب وشمال بغداد من دنس التنظيم داعش الإرهابي حيث تبرع الكثير من الناس بالمال والمتطلبات اللوجستية للمقاتلين والعوائل هناك بعد تحريرها من سطوة تنظيم داعش الإرهابي، وفي الشاهد الثالث العمل التطوعي الفردي والجماعي الذي يقدمه العراقيين في مناسبات دينية خاصة من كل عام ولعل ابرزها زيارة يوم العشرون من شهر الصفر المصادفة ذكرى مرور أربعين يوما على ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي واهل بيته وأصحابه جمعيا، حيث يقوم العراقيون بالألاف رجالا ونساءا وحتى من صغار السن بأشكال متعددة من العمل التطوعي في ما يعدونه خدمة الزائرين من داخل العراق وخارجة لمدة تصل اكثر من عشرون يوما طوال أربعة وعشرون ساعة، حيث تعطل الحياة العامة في اغلب محافظات الوسط والجنوب بفعل انتشار ما يعرف بـ(المواكب الحسينية) التطوعية التي يرعاها اهلي محليين وهي لا تتلقى دعما رسميا بالمرة من قبل السلطات الحكومية، وهذا العمل يقدم في سبيل ما يعد خدمة للزائرين على امل ان ينال القائمين عليها رضا الله وكسب عطف وشفاعة ال البيت يوم القيامة الى جانب اعتقادات اجتماعية ودينية أخرى منها الرزق في الأموال والأولاد، والبركة في الأموال والبدان والاروح. والشاهد الرابع من الاعمال التطوعية نشاهده الان بعد ان أصاب فايروس كورونا عدد من المدن العراقية اثر انتقاله لها من مدن انتشر فيها كالصين وايران، ومن ثم انتشر في اغلب دول العالم، وكأجراء وقائي ملزم اتخذت السلطات العراقية بأجراء نستطيع ان نسيمة بأجراء وقائي عالمي يقضي بعدم الخروج من المنازل او البقاء في البيوت STAY AT HOME)) وترتب عليه فيما بعد فرض حالة عدم التجوال، وتداركاً لحالات إنسانية قد تحصل للعوائل ذات الدخل المالي المحدود وهم فئة كبيرة من الشعب ممن يشكل لهم العمل مصادر للدخل اليومي، نلاحظ اثر ذلك انطلاق الدعوات الصادرة من المرجعيات الدينية وبعض القوى والشخصيات الوطنية وعموم أبناء الشعب العراقي الى المشاركة في الاعمال التطوعية لإغاثة العوائل والبيوتات التي قد تضرر من جراء حال الإنذار الوقائية من فايروس كورونا، حيث دعا بيان صادر يوم 21/اذار من هذا العام ما اسماهم:”اهل الخير من المتمكنين ماليا ان يساهموا في توفير الحاجات الاساسية للعوائل المتضررة من الاوضاع الراهنة ويمكنهم احتساب ما يدفعونه من الحقوق الشرعية”، كما دعا السيد السيستاني في البيان ممن تتوفر لديهم المواد الغذائية ونحوها بان يعرضوها للبيع ولا يرفعوا اسعارها بل ينبغي ان تكون مدعومة، ووجه في الوقت ذاته كما اشرنا لهم في ما مضى من هذه الورقة(اصحاب المواكب الحسينية) الذين وصفهم البيان كان لهم دورا مشرف في رفد المقاتلين الابطال بكل ما يحتاجونه في ايام الحرب مع داعش، موجها بان يستعيدوا نشاطهم باتجاه دعم او اسناد العوائل المتضررة بالوقت الراهن، وأخيرا دعا السيد السيستاني الى:”تشكيل مجاميع شبابية تعمل بالتنسيق في حركتهم مع الجهات الرسمية في ظل منع التجول الساري في معظم المناطق ولا بد ان ياخذوا كافة الاجراءات الاحترازية لكي لا تنتقل العدوى اليهم لا سامح الله” من جانبة دعى السيد محمد سعيد الحكيم في بيان له:”المواطنين في البلاد التي أصابها هذا الوباء الخطير إلى التكاتف والتعاون والتكافل كل في مجال عمله، مشيرا الى انه من الطبيعي أن تزداد في هذا الظرف حالة العوز والحاجة بين الناس لأن الكثير من العاملين قد ينقطع عن عمله ومصدر رزقه فعلى المسؤولين رعايتهم والاهتمام بهم والأمل بالخيرين الإنفاق في هذا الظرف العصيب، عادا ذلك من أعظم الصدقات.
وعلى اثر ذلك اقدمت العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وباقي المحافظات ومكاتب القوى السياسية والدينية كالتيار الصدري بعد دعوة مباشرة من زعيمه السيد مقتدى الصدر عن تسيير قوافل ومجموعات بشرية كلا على حدا، تضم مواد غذائية وخضروات إلى عدد من المحافظات العراقية، تزامنا مع إعلان حظر التجوال في اغلب المحافظات العراقية كإجراء احترازي للوقاية من تفشي جائحة كورونا، فيما أقدمت قوى سياسية وشخصيات عشائرية ورياضية ومن شرائح اخرى الى التبرع ببناء وتجهيز مستشفيات لاحتواء تداعيات تأثير الفايروس على المواطنين في بعض المحافظات العراقية كالعاصمة بغداد ومدينة النجف، ومدينة كربلاء، يرافق ذلك تأييد وجدل كبيران على وسائل التواصل الاجتماعي عن مغزى وضرورة ذلك في الوقت الذي يشكل البعض من الناس على بعض القوى لاسيما تلك التي نشطت في حقبة المظاهرات الشعبية من عدم فاعلها التطوعي في حين يأخذ مؤيدي على التيار الشعبي التطوعي جوانب مصادر هذه التبرعات كجزء من حملة التقليل منها او تبرير عدم المشاركة في هذه الحمالات التطوعية.
مما تقدم نستنتج من دراسة ظاهرة الاعمال التطوعية التي تعارفها العراقيون اجتماعيا طوال تاريخهم وحتى ازمة وباء كورونا الى ان للأعراف الدينية اثرا كبيرا في النزوع نحو العمل التطوعي لاسيما في بعض الازمات والمخاطر خاصة تلك التي تحمل في بعض الوجوه ما يعدونه ابعادا الإلهية واخروية، في حين تشكل الأعراف الاجتماعية الناجمة عن الأعراف العشائرية التي يتميز بها العراق في كل محافظاته دوراً كبيراً في العمل التطوعي حيث تترسخ في اعراف ومساني هذه الشعائر اعراف: الكرم، واكرام الضيوف والنخوة ومساعدة المحتاج لاسيما في الحالات الطارئة بصورة تخرج ان من نطاقها المحدود الى حالة عامة وأحيانا تصل الى المبالغة، وهذه الأعراف وان تميزت بها اغلب المجتمعات العربية وهي بالتأكيد اعراف عربية لكن العراقيون تفوقوا بها على اخوتهم وأبناء قوميتهم العرب ولعل الدلائل على ذلك ما اشرنا له في ما تقدم من هذه الورقة صحيح هي حوادث مرتبطة بواقع العراق لكنها تدلل على مدى هذه الظواهر ولم تأثر بهم مظاهر العولمة والحداثة فيما اثرت بغيرهم.