22 ديسمبر، 2024 11:21 م

العملة غير الصعبة في كوردستان

العملة غير الصعبة في كوردستان

نعيش هذه الأيام وسط زحمة الحديث عن الطموح الكوردي المشروع، وعن الإقدام والعطاء والصدق والانتماء والشجاعة والإعتزاز بالذات، وغير ذلك من صفات وخصائص وسمات مستمدة من مؤشرات ودلالات وإحداث سياسية. وحين الحديث عن دور رجال الدين في المجتمع الكوردستاني، يجب تسمية الأشياء بأسمائها، فهو يفهم وظيفته ويشعر بالإنتماء، ويملك القدرة على التفكير المنطقي المنّظم وتشكيل الوعي الجماهيري، ودفعهم نحو مسارات وإتجاهات محددة. يهمه الحاضر الذي هو فيه والمستقبل أيضاً، ويتذكر الجميل ويمد اليد لليد التي تمد له، ولا يقع بسهولة تحت تأثير أفكار غريبة لايؤمن بها.

طوال التاريخ الإسلامي ظل رجل الدين الكوردي متمسكاً بالقيم الدينية والأخلاقية، شديد الحرص على أداء فرائضه، أما عن الدور التقليدي لل (ملا)، فإنه يؤم الناس ويخطب فيهم، ويربيهم على الأخلاق الحميدة، وفي جامعه يعلم الأجيال الناشئة قراءة القرآن والتفسير والحديث والفقه وأصوله، ويلقنهم مبادئ اللغة والقراءة والأدب والمنطق والنحو والبلاغة. وله سلطة إجتماعية وتأثير كبير في المجتمع، وفي أحايين كثيرة يجمع المساعدات للمحتاجين وإعانة المنكوبين، ويهتم بالضعفاء والمساكين والمرضى، وعندما يدلي برأيه في موضوع معين فلا راد لقوله، إلا نادراً، ويفض الكثير من النزاعات ومشكلات القروض الآجلة والميراث والقضايا الإجتماعية.

خلال الثورات والانتفاضات الكوردستانية، وفي أيام المحن، لم يكتف رجل الدين الكوردستاني بالترقب والمتابعة من بعيد، قسم منهم، إنخرط بقوة في علمية الدفاع عن الكورد الذين أرادوا ممارسة حقوقهم الدستورية والقانونية والانسانية المشروعة على أراضيهم، وحمل السلاح مع أبناء جلدته. كما اشترك في التفاعل العقلاني الهادئ والمهذب البناء مع الثوار، وفي تبني خطاب السلام والمحبة والتعايش الديني والقومي الذي يفند مزاعم خصوم الكورد التقليديين. وإستطاع في المساجد إنتاج عقول وطنية شجاعة، وشخصيات سياسية متمكنة وهادئة ومتعلمة، تعي حجم المهمة والمسؤولية المترتبة اللتين تقعان على عائقها، وقادرة على الدفاع عن مصلحة شعبها، بطريقةٍ تحتكم إلى مبادئ حقوق الإنسان والقيم الدينية. شخصيات لم تنفصل عن الشعب، بل إنحازت إليه، وراحت تحمل السلاح دفاعاً عن القيم العليا، ونجحت في التوفيق بين البعدين الديني والقومي في محاربة الطغاة الظالمين وتحدي ظلمهم وطغيانهم حتى أصبح من المستحيل التطرق الى تاريخ الحركة التحررية الكوردية دون التطرق الى الدور التاريخي الذي قام به رجال الدين، ومن هؤلاء الخالد مصطفى البارزاني والشيخ محمود الحفيد والشيخ سعيد بيران. وفي إنتقالة نحو عهد ثورة أيلول العظيمة، وإستذكار أيامها، نستطيع الإستشهاد بثبات آراء الكثير من رجال الدين وبلوغهم أعلى مراتب الإنتماء الذي وصل إلى درجة الفداء والتضحية.

البعض يقول : (بسبب إختلاط الدين بالسياسة، أصبح رجل الدين المعتدل عملة صعبة ونادرة هذه الايام، ويصعب الحصول عليه)، ولكننا نقول: هذا لاينطبق على كوردستان، لأنهم موجودين بكثرة في مجتمعنا. ولا يمكن إنكار أدوارهم الإنسانية في السلم والحرب، وحماية المجتمع، وخلال سنوات الحرب ضد الإرهاب الداعشي، شاهد العالم بأسره رجل الدين الكوردي الصادق والأمين والنزيه والمتجاهل لرغباته وهو في الصفوف الاولى للنضال القومي الكوردي لايصال رسالة الاسلام الحقيقية والقيم الانسانية. وفي هذا الخصوص لايمكن تجاهل الدور الإيجابي لحكومة إقليم كوردستان، برئاسة نيجيرفان بارزاني، التي أدركت ثقل المسؤولية التي يتقلدها رجل الدين الكوردستاني في المسار التطوري والنوعي لمسيرة شعبنا، والتي مهدت السبيل أمام الجميع لتحكيم الضمائر بمعزل عن العواطف والانتماءات، وللإنخراط في العملية السياسية والانتخابية، وأمنت المناخ الديمقراطي الذي يضمن إستقرار الحياة الحزبية والسياسية والإعلامية، ويتيح التعايش الديني والقومي والإجتماعي، ويمهد للإبتعاد عن العنف والتشدد والتطرف.