22 ديسمبر، 2024 10:55 م

العمر الثاني للإنسان

العمر الثاني للإنسان

في إحدى المقالات وبالتحديد (محمد الصدر ينبض بالحياة) أشرت إلى فكرة العمر الثاني الذي يعيشه الانسان التي طرحها في بواكير شبابه ؛
واليوم أود أن استعرضها توخيا لفائدة القاريء العزيز..
ان السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره) قد طرح هذه الفكرة ضمن كلمة ألقاها في قاعة المحاضرات الكبرى في مكتبة الحكيم العامة في مدينة الديوانية سنة ١٩٧٠ وكانت الكلمة بعنوان الموت في الوعي الإسلامي وانا سوف اقتبس منها فقط فكرة العمر الثاني للإنسان وهذا هو نص الاقتباس:
(( أنكَ لو خُيّرت بين أن تبقى على وجه الأرض عمراً واحداً أو عمرين، لاخترت العمرين لا محالة، بل إنَّ الإنسان ليختار أن يضاف إلى عمره يومٌ واحدٌ أو سنةٌ واحدة، أو عددٌ قليل من السنين، فكيف لو ضمن له ضامن بأن يكون العمر الثاني أطول من العمر الأوّل بكثير، وأوسع شهرةً وأغزر ثواباً، وأبعد عن المعاصي والمصالح الشخصيّة، ومواطن الزلل والشبهات.
إنَّ هذا العمر الثاني ليخدم صاحبه ويساهم في رفع شأنه في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فكما قال الشاعر(): والذكر للإنسان عمرٌ ثاني.
وأمّا في الآخرة، فلما رُوي عن رسول الله’ أنَّه قال: >إذا مات المرء انقطع عمله إلَّا من ثلاث: كتابِ علم ينتفع به، وولدٍ صالح يستغفر له، وصدقةٍ جارية<().
فإنَّ الإنسان إذا فارق هذه الأرض، انقطع – لا محالة- عن سائر مجالاتها ونشاطات الحياة فيها، والمهمّ من ذلك عدّة جوانب:

الجانب الأوّل: انقطاعه عن سلسلة تفكيره مهما كانت وجهتها ومستواها، فإن كان مفكّراً أو أديباً أو عالماً أو داعياً، انقطع عمّا كان يفكّر به، وانقطعت إفادته المباشرة لمجتمعه لا محالة، ونحن وإن كنّا نؤمن ببقاء الفرد على ثقافته في الجملة في حياته الثانية، إذا كانت مطابقةً للواقع؛ لانحفاظ نفسه الناطقة وعقله الحامل لهذه الأفكار، إلَّا أنَّ بقاءه على نفس المستوى ونفس الطريقة في التسلسل الذي كان يتبعه في دار الدنيا وانفساح فرصة التفكير النظري لديه بعد ذلك، كلّ ذلك غير محرزٍ على كلِّ حال، وانقطاعه عنه ضروريّ الوضوح.
ومن هنا، كان لابدَّ للفرد إذا أراد أن يحقّق لنفسه العمر الثاني في هذه الدنيا، أن يضاعف جهده في حياته، لكي يبقى تفكيره حيّاً نابضاً مثمراً بعد موته، نافعاً للناس، هادياً للمجتمع، وذلك بتسجيل سلسلة أفكاره ونتائجها على صفحات المؤلّفات وربطها بقيود العبارات، حتّى تبقى في التراث البشريّ خالدةً مع الدهر، يذكّره بها وينتفع بواسطتها كلّ قارئ.
ويكفينا موعظةً حسّيّةً في هذا الصدد ما نراه موجوداً من ثمار أفكار الأقدمين، كعلمائنا وسلفنا الصالح (قدّس أسرارهم) حيث بقيت بعدهم عدّة مئات من السنين، ولعلّها لا تكون قابلةً للزوال والنسيان إلى يوم يبعثون، تضمن لأصحابها عمرهم الثاني الأطول والأشهر من العمر الأوّل، والأبعد عن المعاصي والمصالح والشبهات، فهلّا يكون الفرد سائراً في هذا السبيل، ومنتهجاً هذا النهج القويم.

الجانب الثاني: انقطاعه عن أمواله وثروته، إن كان واجداً للثروة في هذه الحياة وانتقالها إلى ملّاك جدد، بحيث لا يستطيع بعدها أن يصرفها لا في مصالحه الخاصّة ولا العامّة، وأنَّ أفضل طريق يخدم به مجتمعه ويضمن بأمواله عمره الثاني هو أن يصرفها في تأسيس المؤسّسات النافعة والقناطر الخيريّة، كالمساجد والمدارس والقناطر والجمعيّات والأوقاف الخيريّة وغير ذلك من وجوه البرّ؛ لكي تبقى بعده تثمر الخير للمجتمع على مدى الأجيال، لتكون >صدقة جاريّة< كما قال النبيّ’().

الجانب الثالث: انقطاعه عن مجتمعه وفراقه لبني جنسه، من أقرباء وأصدقاء وأولاد، ومَن كان يعرفهم ويعرفونه ويفهمهم ويفهمونه، ينقطع عنهم انقطاع الأبد الذي لا رجاء معه إلى عودةٍ ورجوع.
ومن ثَمَّ يجب أن يؤسّس في أذهان هؤلاء عمره الثاني؛ وذلك: بأحد أُسلوبين يختلفان باختلاف الأفراد الذين يأخذهم بنظر الاعتبار:

الأُسلوب الأوّل: وهو ما يكون بالنسبة إلى سائر أفراد المجتمع الذي يواجهه الإنسان، وخاصّة مَن كان منهم صديقاً، أو عريفاً أو قريباً، حيث يجب على الإنسان أن يزرع في أذهانهم الذكر الحسن والأثر الطيّب، بحيث يحترمونه إذا وجدوه، ويذكرونه إذا افتقدوه، ويتأسّفون لفوته إذا مات، وهو الذكر الذي اعتبره الشارع عمراً ثانياً، وهو لعمري كذلك، إلَّا أنَّه غير منحصرٍ به كما أوضحنا.

الأُسلوب الثاني: وهو ما يكون بالنسبة إلى أولاده على وجه الخصوص، حيث يجب أن يربّيهم التربية الصالحة، ويزرع فيهم الثقافة الإسلاميّة الواعية، والإحساس الدينيّ والأخلاق الفاضلة، التي تضمن للوالد القيام بواجبه من ناحية، وبأن يترحّم عليه أولاده بعد موته، ويرسلوا إليه من ثواب أعمالهم الصالحة الشيء الكثير، وهذا لا ينتج لا محالة من التربية المتسيّبة غير الهادفة وغير الواعية، بل يحتاج جزماً إلى أن يضاعف الوالد جهده لكي يصنع من ولده أو أولاده، ثماراً إسلاميّة صالحة وأفراداً بنّاءة للمجتمع الإسلامي، وهم الذين يذكرون والدهم بالخير وبالعمل الصالح، وينفعونه في حياته وبعد مماته، وهم مصداق قوله’: >ولد صالح يستغفر له<()، لكي يزيد في ثوابه أو يقلّل من عقابه في حياته الأبديّة.
فبكلّ هذه الجوانب يستطيع الفرد أن يحرز عمره الثاني وذكره الطيّب في الأذهان، ويستطيع إلى جانب ذلك أن يحرز بقاء عمله الطيّب في دار الأعمال، ويبقى كأنَّه حيٌّ عاملٌ ينتج الخير لإخوانه، والثواب لنفسه، وذلك ببركة الحديث النبويّ الشريف والضرورة الإسلاميّة القاضية بذلك، فيصبح الفرد كأنَّه يعيش في كلتا النشأتين في نفس الوقت، وينال ثواب عمله عند صدوره، فيكون العمر الثاني من هذه الناحية أكثر خيراً من العمر الأوّل، فإنَّ الإنسان إذا أفاد شخصاً فكرةً إسلاميّةً واعيةً في عمره الأوّل، حصل على ثوابها والقرب الإلهيّ بمقدارها، ولكنّه ثوابٌ مؤجّل إلى الحياة الأُخرى.
وأمّا إذا كان له كتابٌ باقٍ على مدى الأجيال، وقرأه بعد موته شخصٌ واستفاد منه الفكرة الواعية، ففي الحقيقة إنَّ نفس المؤلّف قد أفاده، بدليل أنَّه لو لم يؤلّف الكتاب لما وصلت إلى القارئ هذه الفكرة الواعية. إذن، فيستحقّ المؤلِّف على ذلك الثواب لا محالة، وثوابه في مثل ذلك يكون آنيّاً؛ لأنَّه يحيا فعلاً بعد موته في دار الجزاء، فيأخذ جزاءه نقداً قسماً بعد قسم.))انتهى.